الأمم المتحدة «تشد الحزام»

03:25 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. محمد شوقي عبد العال *

في السابع من أكتوبر / تشرين الأول الجاري كشف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريس في كلمته التي ألقاها أمام اللجنة الخامسة (لجنة الميزانية) بالجمعية العامة أن المنظمة الدولية تعاني عجزاً مالياً حاداً يبلغ قدره في نهاية شهر سبتمبر / أيلول 230 مليون دولار، محذراً من أن المنظمة قد لا تجد ما يكفي لدفع رواتب موظفيها الشهر المقبل، إذا لم تسدد الدول الأعضاء ما عليها من مستحقات ومتأخرات في ميزانية المنظمة.
الأمين العام للأمم المتحدة أكد أن الدول الأعضاء دفعت 70 في المئة فقط من إجمالي المبلغ اللازم لعمليات ميزانيتنا العادية لعام 2019.
وتعد هذه الأزمة المالية أسوأ أزمة من نوعها تواجهها الأمم المتحدة منذ عقد كامل من الزمن، وقد ألقت المنظمة بمسؤولية هذه الفجوة في التمويل على نحو ستين دولة من الدول الأعضاء تأخرت في سداد مستحقاتها، كان من بينها سبع دول تسببت وحدها في 90 في المئة من هذا العجز، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، التي تزيد المبالغ المستحقة عليها على المليار دولار، والبرازيل والأرجنتين والمكسيك و«إسرائيل» وإيران وفنزويلا.
وفي مواجهة هذه الأزمة أعلنت الأمم المتحدة في الحادي عشر من أكتوبر / تشرين الأول عن سلسلة من التدابير الهادفة إلى تخفيض النفقات لشد الحزام، وحدد الأمين العام في رسالة إلى موظفي الأمانة العامة، البالغ عددهم 37 ألف موظف، إجراءات التقشف التي تلوح في الأفق، قائلاً: إنها ستنفذ عدداً أقل من الرحلات الجوية والمؤتمرات وحفلات الاستقبال والوثائق والتقارير والترجمات مع غياب التدفئة المركزية وإيقاف السلالم الكهربائية في مقر المنظمة، فضلاً عن تقييد التوظيف، محذراً من أن هذا لن يؤثر فقط في العمليات في المراكز الرئيسية للمنظمة في نيويورك وجنيف وفيينا ونيروبي، لكنه سيؤثر أيضاً في اللجان الإقليمية.

مستحقات «حفظ السلام»

وجدير بالذكر في هذا الصدد أنه إضافة إلى العجز المشار إليه في ميزانية الأمانة العامة، فإن الصندوق المخصص لتغطية عمليات حفظ السلام يعاني من المشكلة ذاتها. ووفقاً لوثائق الأمم المتحدة، فإن الولايات المتحدة الأمريكية مدينة لميزانية قوات حفظ السلام بمبلغ مليارين وثلاثمائة مليون دولار، وفي عام 2019 كانت فرنسا مدينة لهذا الصندوق بمبلغ مئة وثلاثة ملايين دولار. ونتيجة لهذا كله تعجز الأمم المتحدة عن الوفاء بما عليها من مدفوعات إلى البلدان التي تسهم بقوات في إطار عمليات حفظ السلام.
وتبلغ الميزانية التشغيلية للأمم المتحدة لعامي 2018/2019، دون نفقات عمليات حفظ السلام، نحو 5.4 مليار دولار، تسهم فيها الولايات المتحدة الأمريكية بمفردها بما نسبته 22 في المئة، وتضغط إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لخفض هذه النسبة، وقد قطعت بالفعل مساعداتها لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في الشرق الأوسط، وهو ما أجبر الأخيرة على إجراء تخفيضات عميقة على أعمالها.
وبديهي أن الأزمة المالية التي تعاني منها الأمم المتحدة ستؤثر تأثيراً كبيراً، ليس فقط في حسن أداء الأمانة العامة للمنظمة لمهامها، وإنما، وهو الأهم، في ما ينبغي أن تضطلع به المنظمة من جهود للتسوية السلمية للنزاعات بين الدول، وإحلال السلام في الدول التي تعاني صراعات داخلية، ومعالجة مشاكل اللاجئين وانتشار الفقر والأوبئة والمجاعات وتلوث البيئة والاحتباس الحراري وغيرها من المشاكل العالمية التي تعانيها كثير من الدول ولا سيما الدول النامية.

مقترحات الإصلاح

والحق أن مشكلة التمويل هذه، وما يترتب عليها من أزمات مالية تعانيها الأمم المتحدة على فترات متقاربة، كانت سبباً في ما قدمه بعض الأمناء العامين للمنظمة من مقترحات للإصلاح في هذا الصدد، كان على رأسها التفكير في إيجاد موارد خاصة للمنظمة، كفرض رسوم لمصلحة الأمم المتحدة على السفن المارة في أعالي البحار، وعلى الأقمار الصناعية السابحة في الفضاء الخارجي، بعيداً عن مساهمات الدول الأعضاء التي يتم تحديدها كل عام بقرار من الجمعية العامة للمنظمة، ولا سيما أن بعض هذه الدول، وعلى وجه الخصوص الدول الكبرى التي تسهم بجزء كبير من ميزانية المنظمة كالولايات المتحدة الأمريكية، قد تتأخر في سداد مساهماتها أو تمتنع عن ذلك في وسيلة من وسائل الضغط السياسي على المنظمة لإجبارها على تبني وجهة نظر هذه الدولة في مسألة من المسائل المعروضة على المنظمة.
هذا فضلاً عن أن التأخر في سداد المساهمات لا تترتب عليه عقوبات على الدولة، إلا عقوبة شكلية بحتة لم تطبق على الإطلاق على الدول ذات الشأن، وهي عقوبة الحرمان من التصويت في الجمعية العامة في حال بلغت متأخرات الدولة، إذا لم يكن ذلك لسبب قهري، ما يعادل أو يزيد عما عليها من مساهمات في الميزانية عن العامين الأخيرين. إضافة إلى أن التأخير عن السداد، وإن طال أمده، لا يقترن بفوائد تضاف إلى أصل المبلغ.


امتناع روسيا وأمريكا


وواقع الأمر أن الضغط على الأمم المتحدة من باب الامتناع، أو حتى مجرد التأخر، عن سداد مستحقاتها المالية المقررة في ميزانيتها السنوية العادية، أو في الميزانية الخاصة لعمليات حفظ السلام التي تضطلع بها، كانت، ولم تزل، جزءاً من مساعي الدول الكبرى المستمرة في سبيل إحكام السيطرة على الأمم المتحدة وتسخيرها لمآربها. وكان الاتحاد السوفييتي قد امتنع تماماً خلال ستينات القرن الماضي عن سداد ما عليه في ميزانية قوات حفظ السلام، اعتراضاً على إنشائها استناداً إلى قرار الاتحاد من أجل السلام والذي كان يعتبره قراراً باطلاً.
أما الولايات المتحدة الأمريكية، فقد استخدمت هذا السلاح مراراً وتكراراً. فلقد استخدمته الإدارة الأمريكية خلال فترة حكم الرئيس رونالد ريجان أداة سياسية في مواجهة الأمم المتحدة.
وكانت قيمة المساهمة الأمريكية في الميزانية العادية للمنظمة تبلغ 25 في المئة من الميزانية الكلية لها، وهو ما يمثل دون أدنى شك وسيلة مهمة للغاية من وسائل الضغط التي يمكن أن تمارسها - وقد مارستها بالفعل - الولايات المتحدة بحق الأمم المتحدة.
ولئن كان قد بدا بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي أن الوضع سيتغير في هذا السياق إلى الأفضل، حين تعهد الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب عام 1990 بدعم الأمم المتحدة وأنشطتها، فإن المناورات الأمريكية في عهد الرئيس جورج بوش الابن استمرت، حيث أعلنت الإدارة الأمريكية أن الولايات المتحدة لن يكون بإمكانها دفع أموال المساهمة في ميزانية المنظمة الدولية ما لم تصادق الأخيرة على قانون حماية الجنود الأمريكيين المساهمين في قوات حفظ السلام حول العالم من الخضوع لولاية المحكمة الجنائية الدولية. ولسنا بحاجة إلى مزيد من الكلام في هذا السياق، فأقوال الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب وأفعاله في هذا السياق تغني عن كل كلام.

* كاتب (مصر)

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"