العرب في عالم يتحول

00:05 صباحا
قراءة 5 دقائق

أقرأ بحس بارد تطورات المواقف حول أوكرانيا، وأتابع بهدوء الحملات «الدبلوإعلامية» التي تشنها كافة الأطراف. ولكنني استمع باهتمام معقول وعقل متشكك وناقد، إلى تصريحات المسؤولين الكبار في واشنطن وموسكو ولندن وباريس وبرلين وكييف، وبخاصة تلك الصادرة عن القادة الذين تواتروا إلى موسكو متتابعين في ما وصف بقافلة الغرب «الأنجلو سكسوني» المتوجهة إلى موسكو عاصمة الفضاء الأوراسي؛ رهن التشكيل. لا أشك للحظة واحدة في صحة الرأي القائل إن الرئيس بوتين الذي سعى بجهود بالغة وتكلفة باهظة عبر سنوات ليحصل على اعتراف حكام العالم، وبوجه خاص حكام أوروبا وأمريكا، كل على حدة وكلهم معاً، باستحقاقه مكانة لروسيا تليق بقدراتها العسكرية وتاريخها الإمبراطوري، حقق بفضل أزمة أوكرانيا والتهويل الأمريكي جانباً كبيراً من هدفه، حين وقف الرأي العام العالمي شاهداً على مواكب الحكام الغربيين تطرق أبواب الكرملين ليسمعوا ما يريد الرئيس الروسي قوله، وليسمعوه نصيبهم من رد الفعل الغربي، كما صاغته الولايات المتحدة. حرص البعض منهم على أن يتدثروا بغطاء القوة وغرورها. تنافسوا على إطلاق أشد التهديدات في محاولة لإخفاء حقيقة أمورهم، والأوضاع في مجتمعاتهم وحال الشروخ القديمة والناشئة داخل الحلف الأطلسي، وداخل الاتحاد الأوروبي، وانحدار مكانة الدولة القائد في المعسكر الغربي.
أحد التيارات في مجتمع مفكري ومنظري العلاقات الدولية، يعتقد أن الأزمة الراهنة حول أوكرانيا (مفتعلة كانت أم ثمرة تلاقح عدد من التطورات الدولية) كشفت عن قرب بزوغ نظام دولي جديد. يستند هؤلاء في اعتقادهم أو ظنونهم إلى شهادة التاريخ. يشهد التاريخ أن الأزمة كادت تكون شرطاً لازماً لإعلان نهاية نظام دولي وبزوغ آخر. وفي اعتقادي الشخصي أن هذا الشرط (إن صح وجوده في النظام الدولي)، فقد ينطبق أيضاً على تطور النظم الإقليمية، أو على الأقل على تطور النظام الذي نعرفه أكثر من غيره وهو النظام الإقليمي العربي. نشأ النظام العربي، مثل النظام الدولي، في خضم أزمة حادة هي الحرب العالمية الثانية. تبلور وتجسد بعد نهايتها مباشرة، ولكن الفكرة نبتت وتطورت خلال معاناة الأطراف العظمى وبعض الأطراف العربية وتوقعاتها للمستقبل، نتيجة قراءتها للتطورات والتغيرات في ميزان القوة الدولية والإقليمية. أضرب مثلاً واحداً، لا أظن أن سياسياً في الدول العربية لم تخطر بباله في أواسط الحرب العالمية الثانية أن نهاية الإمبراطوريتين الإنجليزية والفرنسية قد اقتربت، وبالتالي ستفرض نهاية الحرب أوضاعاً جديدة في العلاقات الإقليمية في الخارج والعلاقات في ما بين الدول العربية.
أسفرت الحرب العالمية الثانية عن اعتراف بنشأة نظام إقليمي عربي، وأسفرت نشأة النظام الدولي الجديد عن منظومة قواعد جديدة للعمل الدولي وعن القطبية الثنائية، والأمم المتحدة، وبخاصة مجلس الأمن، وهياكل وممارسات أسفرت جميعها عن تجمع لدول في ما سمي «العالم الثالث»، اختارت عدم الانحياز أسلوباً ونظاماً يحميها من تجاوزات القطبية الثنائية. 
لم يطل عهد عدم الانحياز الذي ارتبط تاريخياً ومنطقياً بنظام القطبين. انفرط نظام القطبين ومع انفراطه وصعود القطبية الأحادية، انفرط عقد منظومة الكتلة الثالثة، وتبعثرت الآمال والتوجهات بحثاً عن بديل ممكن لحالة وتنظيم عدم الانحياز، ولم يوجد البديل، مما أشاع صفة الفوضى في الحالة الدولية.
بالنسبة لنا، نحن العرب أصحاب نظام إقليمي راح منذ زمن يتخفف تدريجياً من أعبائه ومسؤولياته، ويتحرر من ماضيه ويقترب من نهاية أجله، وضعنا الراهن لا يختلف كثيراً عن أوضاع بقية شعوب العالم الثالث.. نختلف قليلاً. فنظامنا يجمع، أو لعلنا نزعم أنه يجمع إلى جانب إقليميته، صفة القومية الواحدة. كلاهما الآن محل إعادة نظر. أزمة النظام العربي تبدو لي أكثر تعقيداً من أزمات الاتحاد الإفريقي و«الآسيان» ومنظمة الوحدة الأمريكية، وبالتأكيد أقوى حدة من حالة الاتحاد الأوروبي. إن السؤال الذي نجتمع حوله مع غيرنا هو التالي: إن صح أن العالم صار بالفعل على الطريق الشاق والعنيف نحو تشكيل نظام عالمي جديد ثلاثي الأقطاب؛ قطب أمريكي سيبذل أقصى الجهد والثمن للحيلولة دون استعادة روسيا مكانها كقطب، ودون اكتمال عملية تنصيب الصين قطباً ثانياً، وإحباط حلمها أن تكون القطب الأول، إن صح هذا التوقع، فأي موقع سنختار أن نكون فيه أو نكلف به وبعدم تجاوزه؟. تبقى البدائل أمامنا محدودة. أولاً: أن نشكل مع الآخرين كتلة رابعة، وهو الأمر المستحيل. ثانياً: أن نلقي بأنفسنا في أحضان قطب من الثلاثة وننتمي إليه وحده دون غيره، وبيننا من يجرب بالفعل هذا البديل، وأظنه بديلاً محفوفاً بمخاطر جمة خصوصاً في المرحلة الراهنة، مرحلة أزمات تشكيل النظام الدولي الجديد واختبارات القوة. أظنه أيضاً بديلاً مستحيلاً على الأمد الأطول لأسباب ثقافية وحضارية ودينية. 
ثالثاً: الانفصال التام والعودة إلى أفكار غير مناسبة للعصر من نوع التنمية المستقلة ورفض التبعية، بمعنى آخر تبني التجربة الصينية في مراحلها المبكرة، وهو أيضاً أمر يكاد يكون مستحيلاً في ظروف عولمة تأبى أن تنصرف. 
رابعاً: ممارسة أساليب جربتها بنجاح نسبي، ولكن لأمد غير قصير، الإمبراطورية العثمانية وورثتها لبعض خلفائها، ومنها أسلوب اللعب على الحبلين. يكاد الأسلوب يكون صعباً، إن لم يكن مستحيلاً، فالحبال صارت ثلاثة. 
خامساً: تسريع عملية الاندماج في نظام «شرق أوسطي» لا نكون فيه أطرافاً منفردة ومعتمدة ومنسلخة من عروبتها وعقائدها، بينما الأطراف الأخرى في معادلة الشرق الأوسط الجديد ملتزمة، وربما بتعصب، بموروثها وخصوصيتها الثقافية. أزعم أن هذا البديل، وتجري تجربته بالفعل، لن يكون بمنأى عن العواصف والمخاطر المؤلمة. ومع ذلك فهو البديل الأنسب إذا التزم العرب به جماعة قومية تؤمن بالتعددية العرقية والدينية في داخلها وخارجها. هو البديل الأنسب في غياب الجامعة العربية بيتاً كريماً وأصيلاً تتوفر فيه فرص الرقي والتحضر والحماية والعمل الجماعي المستدام في كافة الميادين. ولكن الجامعة كالنظام الإقليمي صارت مستهدفة وتصرفاتهما معاً تكشف عن حال استسلام لظروف تصوراها قاهرة، ولقناعات بأنهما (النظام الإقليمي والجامعة العربية) فقدا صلاحيتهما.
نجحت الأزمة الأوكرانية، وبخاصة التصعيد المتوالي والمتبادل بين أمريكا وروسيا، في تنبيه العالم إلى رغبة روسيا، ونجاحها، في استعادة مكانة لائقة في النظام الدولي الجديد؛ مكانة لا تتعارض مع موقع الصين فيه. نجحت الأزمة أيضاً في أنها بثت دخاناً كثيفاً في سماوات الشرق الأوسط، سهّل تسريع الإجراءات المخطط لها جيداً للانتقال من نظام عربي جرى تثبيت هلاكه، وانتفاء فائدته، إلى نظام «شرق أوسطي» شروطه المعلنة والمعتم عليها، على حد سواء، تجعله غير مجدٍ، إن لم يكن مؤذياً لأغلبيته العربية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"