تونس و«لجنة البندقية»

تونس و«لجنة البندقية»
00:19 صباحا
قراءة دقيقتين

قرار الرئيس التونسي قيس سعيّد بطرد أعضاء «لجنة البندقية»، إحدى الأذرع الاستشارية لمجلس أوروبا، من البلاد، ينسجم مع مواقفه السابقة في رفضه للتدخلات الخارجية الهادفة إلى إحباط خريطة الطريق التي وضعها سعيّد لإرساء جمهورية جديدة، بما يشمل وضع دستور جديد وإجراء انتخابات تشريعية وفق قانون جديد، استكمالاً للإجراءات التي بدأت في 25 يوليو الماضي.
منذ ذلك التاريخ، وتونس تتعرض لضغوط غربية تسعى إلى إعادة البرلمان المنحل الذي انتفض عليه الشعب ورفضته معظم القوى الوطنية وفي صدارتها الاتحاد العام التونسي للشغل. ولم يفعل قيس سعيّد ما يخالف تطلع التونسيين إلى التغيير الشامل، وإن كانت المسيرة شابها بعض التباطؤ وسوء الفهم في أحيان كثيرة، وكل ذلك يمكن تداركه في الإطار الوطني بعيداً عن الإملاءات والتدخلات الخارجية. ولكن الأطراف الغربية أساساً، وسعياً لتحقيق مصالحها، لا تؤمن بالخصوصيات الأخرى، وتسمح لنفسها بالتدخل والانتقاد والتطاول على الدول الخارجة على سياقها، والأمثلة على ذلك كثيرة خصوصاً في البلدان الفقيرة والنامية.
النظرة الغربية المتعالية على الدول الأخرى، لا يمكن أن تبني علاقات ندية ومتكافئة، بل ستغذي انعدام الثقة وتهدد الاستقرار لأنها تلعب على الخلافات الوطنية بالاصطفاف مع طرف ضد آخر. وفي تونس، هناك وضع خاص، فالبلد مازال في حالة ثورة وإعادة بناء منذ إنهاء حقبة نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، والعشر سنوات التي انقضت بعد ذلك التاريخ انتهت بأزمات اقتصادية وفساد وتلوث للحياة السياسية، لم تعرفه في السابق ولم يعهده التونسيون منذ الاستقلال عن فرنسا عام 1956. والسبب في ذلك أن ما جرى في تونس عام 2011، كان متوقعاً بسبب حيوية الشعب ورغبته في الحرية والكرامة والشفافية، ولكن ذلك الحدث لم يكن بريئاً، لأن بعض الأطراف، ومنها الدوائر الغربية، وظفته باتجاه القيام بعملية تغيير كبرى في المنطقة العربية، ظاهرها «تأسيس ديمقراطيات»، أما حقيقتها فكانت ضرب النسيج المجتمعي لدول عديدة وإحداث فتنة حارقة كانت نتيجتها مدمرة على الصعد كافة، والدليل ما حدث ومازال في ليبيا وسوريا واليمن، وفي العراق ولبنان أيضاً.
عندما يسحب قيس سعيّد تونس من عضوية «لجنة البندقية»، التي تضم 61 بلداً بين أعضاء ومراقبين، فإنه يبعث برسالة مفادها أن السيادة الوطنية خط أحمر، وخطاب الإملاء مرفوض، فهذه اللجنة طالبت بلغة استعلائية بإعادة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات السابقة، واعتماد القانون الانتخابي والدستور المعتمد عام 2014، ولم يتبق لها إلا أن تطالب بإدارة شؤون الدولة. وبالحد الأدنى من التوصيف فهذا الخطاب تدخل سافر في دولة ذات سيادة، ومهما كان الضجيج المصاحب له وتحريض بعض الأطراف المحلية على الشأن الوطني، فإن التاريخ سيحفظ لقيس سعيّد هذا الموقف المنسجم مع مبادئ السيادة الوطنية، وباعتباره رئيس الجمهورية والمؤتمن على الأمن الوطني والسياسة الخارجية، ليس له إلا ذلك الموقف. وباعتباره رجلاً مولعاً بالقانون والتاريخ له في ذلك شواهد كثيرة اتخذها من سبقوه وأولهم الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة الذي انتزع الاستقلال من فرنسا وحمى السيادة بنضال مشهود جمع بين الحنكة السياسية والدم.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"