التّغَرْبُـن ليس من الحداثة

00:07 صباحا
قراءة 4 دقائق

الموروث التّاريخي، وفي جملته التّراث الثّقافي والفكري، جزء مركزي من منظومة الذّاكرة الجمعيّة لكلّ أمّة، تختزنه وتستعيده كلّما احْتِيج إلى شيءٍ منه. لا تتعلّق هذه الصّلة به بمن يُنْعَتون بالماضويّين أو التّراثيّين، حصراً؛ أي بأولئك الذين يتمسّكون بالتّراث مرجعيّة وحيدة لهم في التّفكير، بل هي صلةٌ تُلْحَظ في تفكير عموم فئات المجتمع وسلوكها. كما لا تتعلّق بالعرب والمسلمين من دون سواهم من أمم الأرض، بل هي تكاد أن تكون سمةً عامّة تشترك فيها الأمم جميعُها، بما فيها الغربيّة التي يُعتَقد أنّها أدارت ظهرها للماضي والتّراث. 
يكفي أن تسمع سياسيّين أو مثقّفين غربيّين يتحدّثون، مثلاً، - فيما دولُهم في لحظة اشتباكٍ حربيّ مع بلدان إسلاميّة - عن الحروب الصّليبية حتّى تُدْرك كيف ما تزال الذاكرة تزوِّد الغربي بالصُّور والتمثّلات القديمة عن الإسلام ومجتمعاته، وتجهِّز وجدانه العدائي بها مستنفرة إيّاه ضد خصمه. ثمّ يكفي أن تقرأ أي نصّ فكري غربي حديثٍ في شأنٍ معاصر (الحريّة والدّولة والمواطنة)، حتّى تُلفِي حضوراً للقديم والأقدمين فيه: من أفلاطون وأرسطو، إلى القانون الرّوماني، إلى الإصلاح الدّيني، إلى فلاسفة العقد الاجتماعيّ، فإلى الدّستور الأمريكي والثورة الفرنسية.
  ولم نسمع أحداً من كبار فلاسفة الحداثة ومنظّريها في أوروبا (إيمانويل كَنْت، هيغل، ماكس ڤيبر...) يقول بقطع الصّلة بالقديم ونسيانه وإخراجه من أفق التّفكير، بل شهدنا - على العكس من ذلك تماماً - إقبالهم الشّديد (الثّلاثة الكبار الذين ذكرناهم مثلاً) على دراسة القديم: فكراً وتاريخاً وحضارات، حتّى أنّ أقدم القديم الدّينيّ - مثلاً - الذي يعود إلى آلاف السّنين قبل الميلاد صُرِف أوْسعُ الجَهْد إلى التّنقيب عنه وبحْثه من قِبَل هيغل وڤيبر ووضْع نتائج ذينك التّنقيب والبحث في نصوصٍ هي من الغنى والمرجعيّة والسّلطان العلميّ في المعرفة بالأديان بحيث لا مكان للمَطاعن عليها. ونظير هؤلاء فعَل كبار الحداثيّين العرب (طه حسين، أدونيس، محمّد أركون، هشام جعيّط، ناصيف نصّار) ممّن لم تدفعهم رؤاهم الحداثيّة إلى الإعراض الكامل والعَدمي عن الماضي والتّراث، فظلّت علاقتُهم العلميّة متّصلةً به اتّصال مَن يُدرِك أنّ كثيراً من هذا الماضي ومن ذاك التّراث ما زالت رياحُه تهُبّ على الحاضر.
  ما من شكّ في أنّه لا الحداثيّون الغربيّون ولا الحداثيّون العرب، الذين أومأنا إليهم، مسكونُون بالتّراث أو أنّ وعيهم محكومٌ بالسّلطة المرجعيّة للتّراث؛ ولا من أحدٍ منهم، أيضاً، تغيَّا من درْسه التّراثَ أن يبعث الرّوح فيه، ثانية، فينصّبَه نظاماً للمعرفة والاجتماع حاكماً في أوروبا القرنين 19 و20، وفي البلاد العربيّة في القرن الماضي وهذا القرن. لقد كان الجامع بين هؤلاء، هناك وهنا، النّظرة النّقديّة العميقة التي تسلّحوا بها في قراءة الموروث وتفكيك مطلقاته قصد إعادة مَوْضعته في تاريخييّته الخاصّة. وفي ذلك هم يختلفون مع - ويخالفون - التّراثيّين سابحين عكس تيّارهم. والمستفاد من هذا أنّه ما كل حداثيّ يُحْشَر في زمرةِ ذوي النّظرة العدميّة إلى التّراث - على نحو ما يعتقد «حداثيّون» خِدَاج - وما كلُّ مُنْهَمٍّ ومهجوسٍ بالتّراث من حزب التّراثيّين، مثلما يطيب للأخيرين أن يفترضوا كي تكتمل «حجّتُهم» بأنّهم وحدهم القيّمون على أمره - قيام السَّدنَةِ على المَسْدون - والنّاطقون باسمه الحافظون لرسمه!
  ثمّة فارقٌ وسيع بين من ينتمون إلى الحداثة، على الحقيقة، ومن هُم في حُكْمِ المُصابين بنزعة الغُروبة occidentalisme؛ يستبطنونها فيتغربنون تَغَرْبُناً فيه من المحاكاة الممسوخة ما يشبه أفعال القِرَدة. التَّغربُن ليس حداثةً، بل تقليدٌ رث مع انتصاب الامتناع، أي مع قيام مانعٍ يمنع المُقلِّدةَ من التّقليد؛ هو الاختلاف والتّفاوت بين الشّروط الثّقافيّة والمعرفيّة للمقلِّد ومَن يُقلِّده، وعدم جواز افتراض التّشابُهِ - بَلْهَ التّماهي - بين منتِجٍ للحداثة ومستهلِكٍ لها يعتاش على إنتاجه ويكون عالةً عليه.
  والتّغربُنُ انتحالٌ للحداثة وليس فعلاً من أفعالها ولا صفةً من صفات وجودها؛ إذِ الحداثة منتوج معرفي وتاريخي أنتجه وعيٌ غربيّ اشتبك، ابتداءً، مع موروثه التّاريخيّ وأخضعه للفحص النّقديّ ولمِبْضَع التّشريح، قبل أن يعيد صوْغ العلاقة به، ورسْمَ الحدود والتّخوم بينه والعصر الجديد. والمفهوم من هذا أنّ فعل الحداثة شرع في ابتناء كيانه من نقطةٍ معلومة: فتح الماضي والموروث أمام المراجعة؛ أي، أوّلاً، إعادة قراءته وفهمه وبيان حدوده التي رسَمَها لها أفق معرفي تصرَّم عهدُه، قبل تجاوُزه (علماً أنّ في تضاعيف التّجاوُزِ لحظةَ استيعاب). هكذا هي الحداثةُ في المظانّ: مظانّها. أمّا عند خدائج الحداثة في بلادنا وثقافتنا فلا تعني سوى استعارة ما أنتجه الآخرون، وارتضاء العَيْلةِ والتّسوّل، والقرفصاء على قارعة التّاريخ، والرِّضا من الغنيمة بالإياب!
 إنه العقل الرَّيْعي، غيرُ المنتِج؛ ذاك الذي يختزل الحداثةَ إلى تَغَربُن وتقليدٍ رث، ولا يَحْمِل حَمَلَتَه على تقليد سادتهم في المقدّمات والأصول وعمليّات البناء، بدلاً من السّطو على نتائج صنيعهم واستهلاكه بدعوى الانتماء إلى نظام الحداثة.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"