التضخم دائماً وأبداً ظاهرة نقدية

22:52 مساء
قراءة 4 دقائق

د. عبيد الزعابي*

إن أهم وظائف النقود هي الحفاظ على القوة الشرائية و على الرغم من أنها أكثر الأصول سيولة، فإنها عرضة بأن تفقد قيمتها خلال فترات التضخم و الارتفاع المستمر في مستوى أسعار السلع والخدمات والذي يؤثر في الأفراد ومؤسسات الأعمال والاقتصاد القومي بشكل عام، وعلى الرغم من أن التضخم له تأثير ضئيل في القيم طويلة المدى لمعظم المتغيرات الحقيقية مثل مخرجات الاقتصاد الكلي، الاستهلاك وسعر الفائدة الحقيقي، فإن هناك آثاراً أخرى مرتبطة بالرفاهية. 
فالتضخم في أي مكان وزمان ظاهرة نقدية ترتبط بالسياسات النقدية المتخذة في كل بلد ولا يمكن أن تحدث دون وجود معدل عالٍ من النمو النقدي؛ حيث تلجأ الحكومات إلى زيادة الضرائب خاصة ضريبة الشركات والدخل الشخصي أو الاقتراض من السوق لردم العجز في موازناتها وعند مواجهة عجوزات كبيرة ومستمرة قد تلجأ إلى طباعة النقود وبمصطلح آخر زيادة عرض النقود، وبالتالي زيادة الأسعار، وبالتالي ارتفاع التضخم بوتيرة قوية.
لهذا، فإن ارتفاع مستوى الأسعار يتسبب بزيادة الطلب على النقود والذي يؤدي إلى زيادة نسبة الفائدة، أيضاً أي تغييرات بالارتفاع في الدخل، مستوى أسعار السلع والخدمات وعرض النقود سوف يرفع الفائدة، لأن الناس يتوقعون أن التضخم سوف يرتفع خلال السنة. وعندما يتوقع ارتفاع مستوى الأسعار، فإن مستوى التوقع للمستهلك سوف يعود إلى الصفر. فزيادة عرض النقود سوف يقلل نسبة الفائدة. فالتضخم يعود إلى زيادة مستوى الأسعار بوتيرة متسارعة. على سبيل المثال، فإن زيادة عرض النقود يمكن إذا تمت زيادة القاعدة النقدية أو النقود القوية؛ حيث يقوم المصرف المركزي بشراء السندات الحكومية والشروع فيما يسمى بالشراء في السوق المفتوح، لذلك، فإن توقع ارتفاع التضخم سوف يقود الفائدة على السندات الحكومية إلى الارتفاع في حين أن أسعارها سوف ترتفع أيضاً.
كذلك يمكن للتضخم أن يكون ناتجاً من الحظر على تصدير النفط والذي يرفع الأسعار كذلك التضخم يمكن أن ينتج من سياسات الدعم الحكومي والمتعلقة بزيادة الأجور ومعالجة البطالة أو ما يسمى تضخم رفع الكلفة، إضافة إلى سعي بعض المؤسسات إلى رفع أسعار السلع والخدمات التي تبيعها. أيضاً قد ينتج التضخم من وضع أهداف لمعالجة البطالة أقل من الأهداف الحقيقية والذي يؤدي إلى زيادة مضطردة لعرض النقود باستخدام أدوات السياسة النقدية والتي تؤدي في نهاية الأمر إلى التضخم بسبب زيادة منحنى الطلب الكلي أو ما يسمى الطلب التضخمي الساحب.
مؤشرات مثل مؤشر أسعار المستهلك والذي يقيس أسعار السلع والخدمات ومؤشر مصاريف الاستهلاك الذي يشمل السلع والخدمات المدعومة لها أهمية قصوى في قياس الاتجاه التضخمي في الاقتصاد، علماً بأن تغيرات معدلات التضخم تعتمد على الظروف المحيطة بالاقتصاد، خاصة ارتفاع أسعار النفط ومدى بطء أو سرعة تدفق السلع بواسطة سلاسل التوريد والكلفة المرتبطة بها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن سلوك المستهلك، خاصة بعد تخفيف الإجراءات الاحترازية أثناء ذروة جائحة فيروس كورونا لاستخدامات المدخرات للشراء وزيادة الطلب، إضافة إلى أثر سياسات التحفيز من خلال إصدارات السندات السيادية في أوروبا وسياسة التيسير الكمي في الولايات المتحدة، أدت إلى زيادة وتيرة صعود معدل التضخم وما زاد الطين بله هو فرض العقوبات على روسيا خاص تصدير الغاز والنفط والسلع الاستهلاكية الأساسية الأخرى نتيجة الحرب بينها وبين أوكرانيا. 
ففي الولايات المتحدة الأمريكية، ارتفع مؤشر أسعار المستهلك لمستوى قياسي ناهز 7 % و نسبة التضخم إلى 8.6 % بنهاية النصف الأول من عام 2022 مما حدى بالبنك الفيدرالي إلى رفع الفائدة على الإقراض محاولة منه لاستخدام أدوات السياسة النقدية للسيطرة على التضخم و إبطاء الطلب المتزايد وبأسلوب متدرج فيما يسمى بالهبوط الآمن؛ حيث إن رفع الفائدة بشكل مفاجئ وحادٍ سوف يؤدي إلى دخول الاقتصاد لمرحلة الركود، ونظرا لارتباط عملات دول الخليج بالدولار تبعه زيادة بنسب متقاربة على الفائدة أعلنت عنها البنوك المركزية في تلك الدول في حين أن معدلات التضخم فيها كانت مستقرة تقريباً؛ حيث بلغت 2% بنهاية عام 2021 في دولة الإمارات، لكن استمرار الحظر على النفط الروسي وتعطل سلاسل التوريد للمواد الأساسية نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية، بدأ مؤشر أسعار المستهلك بالصعود التدريجي.
لا شك في أن التضخم يعتبر من أهم المشاكل الاقتصادية والتي دائماً ما تكون حاضرة على أجندة أعمال متخذي القرارات وصانعي السياسات، ولعل أحد أهم أسباب زيادة معدل التضخم هو زيادة عرض النقود والذي يؤدي إلى زيادة مستوى أسعار السلع والخدمات، وبالتالي رفع نسبة التضخم وكما يقول فريدمان الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد: «التضخم دائماً وأبداً ظاهرة نقدية»، و يقول أيضاً: «كلما كان التضخم في أي بلد عالي المعدل لفترة زمنية مستمرة، يعني ذلك بأن النمو في عرض النقود أيضاً عالي»، لذلك فإن النمو المستمر في عرض النقود هو القوة الدافعة لارتفاع معدل التضخم.
والخلاصة، التضخم هو دائماً وفي كل مكان ظاهرة نقدية بمعنى أنها لا يمكن أن تحدث دون ارتفاع معدل نمو النقود، وهناك أسباب وراء ظهور السياسة النقدية التضخمية، والسببان الأساسيان هما وجود عجوزات في الموازنة بشكل مستمر والتزام صانعي السياسات بأهداف عالية ومكلفة للدعم مثل البطالة والتوظيف.
 *مستشار الاقتصاد المالي و الأسواق المالية - نائب رئيس المنظمة الدولية لهيئات بورصات الأوراق المالية «أيوسكو» سابقا

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/45z4pbrw

عن الكاتب

مستشار التمويل والأسواق المالية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"