صدمة ولكن . .

من الواقع
01:29 صباحا
قراءة 9 دقائق

الأغلبية الساحقة من النساء وأنا منهن طبعاً يتابعن المسلسلات التركية المدبلجة، كل مرة أقول فيها لن أعيدها مرة ثانية وأشاهد مسلسلاً جديداً، كنت أعود عن قراري من أجل والدتي التي ترجوني أن أجلس معها ونعلق على الموضوع سوية، فأقبل لأن الوقت يكون مناسباً لي، حيث لا شيء لدي أفعله ولإرضاء والدتي، وبما أن الموضوع أصبح إجبارياً وليس اختيارياً تراجعت عن كلامي وبدأنا بمسلسل جديد اسمه روبي وهو يجمع خليطاً من العرب، وللذين لا يتابعون روبي الذي ذكرني بقصة اليوم هو باختصار يدور حول فتاة فقيرة، لكنها جميلة جداً وتكره حياة الفقر فكانت طموحة أكثر من اللازم وتفعل أي شيء من أجل أن تصل إلى هدفها، تدوس كل من يقف في طريقها حتى لو كانت شقيقتها أو صديقتها المسكينة التي تعرفت إلى شاب مصري عبر الإنترنت وأحب بعضهما بعضاً .

بعد عام كامل وعندما تأكدا أنهما يكمِّلان بعضهما قررا أن يأتي هو من مصر إلى لبنان ليراها، كانت خائفة من هذا اليوم وتؤجله لأنها كانت عرجاء فقد أصيبت بشلل الأطفال منذ صغرها، ولم يستطع والدها فعل أي شيء لها رغم ثروته الطائلة، المهم أنها لم تخبره بهذا الموضوع، كانت ترسل له صورها في البداية فهي جميلة أيضاً ثم عندما تأكدت منه بدأت تفتح الكاميرا ليراها لكنه بالطبع لم يرها وهي تسير، وبما أنها لم تخبره منذ البداية عن شلل قدمها، لأنها لم تعتقد أن علاقتهما ستتطور إلى هذا الحد، لم تتجرأ أن تخبره حين أحبته وتعلقت به خوفاً من أن يتركها، لذلك عندما أصرَّ على السفر ليراها كانت متوترة جداً لكنها اتكلت على الله وقالت: فليكن ما يريده، بالطبع صدمه جداً هذا الموضوع وشعر بأنها كذبت عليه في شيء مهم، لكن وبعد تفكير عميق، وحباً بأخلاقها العالية وهدوئها وحبهما الكبير وجمال وجهها قرر التغاضي عن هذا الشيء والزواج بها، لم تصدق المسكينة نفسها وأخذت تجهز ليوم عرسها عندها بدأت روبي صديقتها المقربة جداً منها والتي كانت الأخيرة تعتبرها شقيقتها، تستميل خطيبها الثري الوسيم لتوقعه في شباكها، غير آبهة بصداقتهما ومساعداتها السخية لها، وكان الشاب ضعيفاً أمام جمالها فنسي من جاء من أجلها وهرب مع روبي إلى بلده على أول رحلة طائرة ليتزوجا هناك، تاركاً خلفه إنسانة مسكينة محطمة قد جهزت لزفافها الذي كان مقرراً بعد عدة أيام .

تلك القصة جعلتني أستعيد بذاكرتي قصة مماثلة لها عشتها بشغف منذ ما يقارب سبعة أعوام مع شاب يدعى سعيد وهو شقيق إحدى صديقاتي وكان فعلاً سعيداً في حياته محباً للحياة ينشر السعادة والفرح أينما حل، لكنه للأسف أصبح تعيساً جداً بعد تعرضه لحادث سيارة مؤسف سببه سائق أرعن أقعده طوال حياته على كرسي متحرك، أخذوه إلى الخارج، فقالوا إن هناك جراحة حديثة ستساعده على أن يسير بضع خطوات بواسطة العصي، ومع العلاج الفيزيائي من الممكن أن يسير دوماً بمساعدتهما، لكنه سيظل يجر قدميه جراً، كما تلزمه القوة والإرادة لتحمل العلاج المؤلم والطويل، وإذا لم يقتنع بالموضوع ولن يتحمله فمن الأفضل أن يبقى دون جراحة، كان حينها محبطاً تعيساً، حزيناً، لم يتقبل وضعه أبداً، ورفض إجراء أي شيء قائلاً إن لم يعيدوني كما كنت لا أريد أن أفعل أي شيء، وهذا ما كان مستحيلاً ففضل البقاء كما هو، مع أنه كان يتعذب جداً ويعاني القهر والغضب، إلا أنه رغم كلام والديه وأشقائه بمساعدته ووقوفهم إلى جانبه للنهاية، إلا أنه تمسك بقراره، وحين انزوى في غرفته ولم يعد يخرج منها، أخذوه بالقوة إلى طبيب نفسي، حيث وصف له دواء مهدئاً للأعصاب فلم يساعده إلا بالنوم فقط، عادوا يكلمونه ويخبرونه عن النتيجة التي لم تؤد إلى شيء، فاقترح عليهم أن يضعوه لفترة في دار للمعاقين أمثاله، فهناك حالات أصعب من حالته، حينها من الممكن أن يتقبل ما هو عليه، وكان على حق فحين أخذوه إلى هناك وجد من هم مشلولو اليدين والرجلين، لا شيء يتحرك بهم سوى أعينهم، ومنهم من هم مبتوري الأطراف، لكنهم كانوا قد بدأوا يتأقلمون مع وضعهم، أما هو فانهار في البداية، وكان يبكي كالأطفال، فأتوا يعزونه ويخبرونه عن مأساتهم وحالتهم التي هي أصعب بكثير من حالته، وقفوا بجانبه يؤازرونه ويقولون له، يا ليتنا نستطيع أن نحرك يدينا فقط لنأكل أو نعمل، نكتب أو نفتح الإنترنت، لكنا خرجنا من هنا إلى العالم، فخارجاً من هم مثلك يتابعون دراستهم ويعملون مثل أي إنسان آخر، حتى أنهم يتزوجون وينجبون، بدأ يرتاح قليلاً، خاصة عندما كان يسمعهم وحين خرج من عزلته وبدأ يتجول بأرجاء المكان، فيرى هذا الذي يرسم واضعاً الفرشاة بين أسنانه، والذي يستطيع أن يحرك قدميه لكنه مبتور اليدين يرسم أيضاً وهو يضع فرشاة الرسم بين أصابع قدميه، وجد أن حالته سهلة أمامهم، وأخذ يساعد من لا يستطيع أن يحرك يديه بأن يطعمه بيديه، ويساعد آخر بوضع الفرشاة بفمه، وعندما كان يأتي شباب جدد محبطين مثلما كان غاضبين ثائرين تاركين الصلاة يجلس معهم أياماً وليالي حتى يعيدهم إلى الصلاة وأن يتقبلوا بما ابتلوا به، فأصبح سعيداً سبب سعادة المركز والشبان القاطنين فيه، خاصة بعدما طلب من والده أن يجهز له سيارة خاصة بوضعه، حيث يتحكم بكل شيء من خلال يديه، فكان يأخذهم معه في رحلات يزور أهله ويريهم الأشياء الجديدة التي حصلت في البلاد، فرح أهله لأنه استعاد فرحه وحبه للحياة من خلال مساعدة الآخرين، وأصبح لديه أصدقاء جدد لا بل أشقاء، لأنه قضى معهم سنة كاملة، ينامون سوياً ويقضون أوقاتهم معاً، لكن جاء الوقت ليخرج مجدداً إلى الحياة ويحاول التأقلم مع المجتمع، خاصة أنه تبدل وأصبح يعتبر أن الذي حصل له يجب أن يقويه بدل أن يضعفه، وأصبح إيمانه أقوى من قبل، وهكذا خرج سعيد من المركز بدعاء أصدقائه الجدد له بالتوفيق مع بعض الدموع، لكنه وعدهم أن يزورهم كل أسبوع مرتين، التحق بالجامعة ولم يعد يهتم بنظرات الشفقة التي ينظرون بها إليه، كان داخله يشعر بالسلام، وأيضاً أصبح لديه زملاء جدد أحبوه وأحبهم، إلى أن جاء يوم كان يفتح فيه الكمبيوتر لإجراء بحث عن شيء ما طلب منهم في الجامعة، ولم يدر كيف أصبح في إحدى المنتديات، حيث فوجئ بالكلام والعبارات الذين يستخدمونها في التحدث مع بعضهم بعضاً، فهذا يشتم أحداً من بلد آخر ويهينه بعبارات مسيئة، وذاك يفضح فتاة ويشتمها لأنها لم تعد تكلمه، تأسف أن يتعامل شبابنا وبناتنا هكذا مع هذه التكنولوجيا الرائعة التي يجب أن تكون لخدمة الناس، حيث يستفيدون منها في أشياء تفيدهم وتثقفهم بل مجرد وسيلة للشتم والسب، للكلمات النابية والجريئة، حاول أن يهديهم عبر كلمات مثل استهدوا بالله يا جماعة الخير . . صلوا على النبي . . اذكروا الله . . عيب عليكم أن تتكلموا هكذا، لكنهم كانوا يقفون بوجهه ويشتمونه أو لا يعيرونه أي اهتمام إلى أن وصلته رسالة من فتاة تلقي عليه السلام وتقول: والله إنك ما قصرت فيهم، فأجابها لكن لا حياة لمن تنادي فقد طنشوني، قالت ما عليك منهم إنهم فاسدون، بدأ يكلمها فوجدها مؤدبة لطيفة، أجوبتها مدروسة كلامها محترم، مثقفة فسألها بعد وقت، يبدو أنك ابنة عائلة ومحترمة فماذا تفعلين في هذا الموقع، أجابته أن صديقتها طلبت منها أن تدخل إليه للتسلية وأعطتها اسمها المستعار لكنها عندما قرأت ما يُكتب فوجئت بالأمر وأرادت أن تخرج منه فقرأت ما يكتبه سعيد وأعجبها فبقيت حتى ترى ما سيحصل، ولكن عندما لم يردوا عليه شعرت بأنها يجب على الأقل أن تشكره وتشجعه، فهو يبدو من خلال كلامه أنه إنسان خلوق ويخاف الله، وقد وجد في المكان الخطأ عن طريق الخطأ مثلها هي المهم إنهما تحدثا مطولاً، ثم قالت له لماذا لا نتحدث على الماسنجر قال حسناً أضيفيني عندك، وهكذا بدأت علاقتهما البريئة، كان ينتظر رسائلها بفارغ الصبر، وهي لا تصدق متى تعود إلى المنزل كي تفتح الإنترنت وتكلمه، أرسلت له صورتها وفعل مثلها، تبادلا أرقام هواتفهما فسمع صوتها العذب وضحكتها الرنانة، كان يشعر كل يوم أنه يقترب منها أكثر، بقيا على هذه الحال لأشهر حتى أخذ كل واحد منهما على الآخر وبدءا يشعران بسهم كيوبيد يخترق قلبيهما، كانت ميثاء في الثامنة عشرة من عمرها وهو في الثانية والعشرين، كانت ابنة عائلة محترمة ومعروفة وهو أيضاً، كان كل الذي يجمعهما مناسباً، وبعد حين قالت له إن والدتها كلمتها عن شاب من أقربائهم يكمل دراسته في الخارج وعندما يأتي في عطلته الصيفية سوف يتقدم لخطبتها، جن جنون سعيد، وانهارت كل آماله وأحلامه، شعر بأنه سيفقدها حتماً، لعدة أسباب أولها بأنها لا تعلم بأنه كسيح فلم يتجرأ على إخبارها خوفاً من أن تتركه، كانت علاقته بها تمنحه السعادة والأمل في الغد، صحيح أنه عندما كان يجلس وينتظرها يفكر في أنه يجب أن يخبرها الحقيقة ولا يخفيها عنها أكثر، لكن الخوف من فقدانها كان يوقفه ويلجم لسانه، استنجد بشقيقته الحنون، جلست معه وأخبرها كل شيء عن علاقته بميثاء، قال لها لو كنت مكانها ماذا كنت ستفعلين إن اكتشفت أن الشاب الذي أحببته معوق، ولم يخبرك وأنت قد علقت آمال كثيرة عليه وخططت لمستقبلك معه؟ صمتت قليلاً لتفكر ثم أجابته، هذا يعود لشخصيتها، تفكيرها وقلبها، طريقة حياتها وأهلها، فهل يا ترى يوافقون عليك حتى لو وافقت هي؟ أنت في موقف لا تحسد عليه، وماذا يجب أن افعل، ساعديني، أجابته يجب أن تخبرها الحقيقة، صحيح أنها ستكون صدمة كبيرة بالنسبة لها، ويجب أن تأخذ بعين الاعتبار غضبها من أنك أخفيت عنها هذا الأمر، ثم يجب أن تحضر نفسك بأنها من الممكن أن تتركك، ستتعذب في البداية كثيراً لكن يا أخي ستتخطى هذا الشيء كما تخطيت إعاقتك وأصبحت قوياً، ومن الممكن أن تتقبل الوضع وتتخطاه إذا كان حبها لك أقوى مما تعتقد، لكن لا تأمل كثيراً، لم يذق ليلتها طعم النوم وهو يفكر بطريقة ليخبرها، وقلبه يغوص في صدره بمجرد التفكير في أنها ستهجره ولن يعود يسمع صوتها أو تتوقف رسائلها، لكن إلى متى يخفي الأمر عنها فاتكل على الله وقرر مصارحتها، وكان يوم الجمعة، تفاءل بالخير وطلب من الله وهو يصلي صلاة الفجر ألا يحرمه منها وأن ينير عقلها ويحنن قلبها عليه، هو لا يريد بالطبع أن تقبل به شفقة عليه، إنما عن اقتناع بشخصه ورقته، أدبه ومعاملته لها، اتصل بها كعادته في الثامنة صباحاً كما كان يفعل دائماً حيث تكلمه لساعة تقريباً قبل أن تنزل لتتناول الفطور مع عائلتها، شعرت بارتباكه وبأنه يريد أن يقول لها شيئاً ما فطلبت منه أن يدخل في صلب الموضوع فهي أصبحت تعرفه كما تعرف نفسها، فهو شفاف جداً، لا يعرف الكذب، قال لا أستطيع الكلام على الهاتف أريد أن أراك اليوم لو لم يكن عندك مانع، فرحت وقالت أخيراً طلبت أن تراني، فأنا كنت أنتظر أن تطلب هذا الشيء لأنني أنا أيضاً أريد رؤيتك، اتفقا على اللقاء في اليوم نفسه على شاطئ البحر عند الغروب، وصل إلى هناك قبلها بنصف ساعة وحاول أن يوقف الرجفة التي تملكته، وعندما وصلت أخذ قلبه يطرق بسرعة فائقة، أوقفت سيارتها وانتظرت أن ينزل كما تجري العادة والأصول فلم يفعل، فتح النافذة وقال لها: هل تأتين من فضلك إلى سيارتي؟ قالت حسناً، ترجلت وتوجهت إليه فتح لها الباب وجلست قربه، عبقت السيارة برائحتها العطرة وكما يقال تعطلت لغة الكلام، كانت مرتبكة أكثر منه، لذلك قطع الصمت قائلاً: وأخيراً رأيتك يا مهجة قلبي، إنه أسعد يوم في حياتي فأنا لا أصدق إنني أراك أمامي لكنه من الممكن أن يصبح أتعس يوم . كل شيء في يدك، قالت ما الأمر أشار لها لتنظر إلى الخلف فوجدت الكرسي المدولب، لم تستوعب الأمر فرفع قدمه الميتة بيديه، لكن كيف تقود وأنت، أنت! كان هذا الشيء الوحيد الذي قالته لأنها لم تعرف ماذا تقول، أجابها إنها سيارة مجهزة خصيصاً لأجلنا، نظرت إليه مطولاً ثم وضعت يديها على وجهها وبدأت في البكاء، قال أنا آسف يا ميثاء لأنني لم أخبرك، لكنني لم أتوقع أن نصل إلى ما وصلنا إليه من مشاعر سامية وحب كبير عندها فقط ذعرت من إنني إن أخبرتك سأفقدك، سامحيني أرجوك، صمتت قليلاً ثم فتحت باب السيارة وقالت وهي تبكي: أنا ذاهبة، تركته ورحلت، ظل في مكانه لساعات يشاهد غروب الشمس، وغروب الأمل معها، وضع رأسه على المقود وانسالت دموعه على وجهه الوسيم، وقال ساعدني يا الله، لا تتركني أتخبط بالألم، أدار محرك السيارة ليعود إلى المنزل فرأى مصابيح سيارة مقبلة بسرعة نحوه، إنها هي، إنها ميثاء، أوقفت سيارتها بقربه وترجلت منها لثوان وجلست قربه، عيونها ما زالت تدمع، لكنها قالت له، أنا أحبك حتى ولو كنت بلا قدمين، صُدمت نعم لكن لن أتخلى عنك أبداً، أنت من كنت أحلم بلقائه، أنت فارس أحلامي وأحلام كل فتاة، برقتك وعذوبتك، باحترامك وأدبك والآن زاد احترامي لك بعد أن علمت أنك تتابع حياتك وتجتهد لتصل إلى مبتغاك، أنا فخورة بك، لكنني حزينة عليك ولست مشفقة، لقد أخذت قراري وأريد أن أكمل حياتي معك .

سافر سعيد وأجرى الجراحة واحتمل الألم الفظيع في العلاج الفيزيائي، كانت ميثاء معه على الهاتف تؤازره وتشد من عزيمته، قرر أن يعود من دون الكرسي، وعدها أن يعود على قدميه، وهكذا صار، إرادته القوية وحبه الكبير لتلك الإنسانة الرائعة كانا الدافع الأكبر لشفائه الجزئي أقنعت أهلها بأنه خيارها وأن أي واحد منا معرض أن يصبح مثله، تقدم لخطبتها وأحبه والداها لما يتمتع به من أخلاق عالية وافقا طبعاً عليه ليس من إصرار ابنتهم فقط بل من أجله هو فكم أحبوه، واحترموا ما فعل واحتمل من ألم من أجلها، اطمأنوا أن ابنتهم ستكون بين أيد أمينة وباركوا زواجهما، الحمد لله أن النهاية كانت سعيدة بعكس المسلسل الذي كنت أشاهده.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"