عادي

المبدع بين التبعية والاستقلال

23:02 مساء
قراءة 5 دقائق

يوسف أبولوز

كان السؤال التقليدي، وبخاصة في العقود الأخيرة من القرن العشرين.. ماذا يريد المثقف من الإعلام؟.. و«الإعلام» مفهوم واسع فضفاض يقابله اتساع آخر في تعريف «المثقف»، وأياً كانت التعريفات، وقبل الاجتهاد في الإجابة عن السؤال الرّاهن المعاكس للسؤال الأول الذي بدأنا به هذه المادة وهو هذه المرة «.. ماذا يريد الإعلام من المثقف؟» نشير أن إعلام النصف الثاني، تحديداً، من القرن العشرين مختلف تماماً عن إعلام اليوم، وبالطبع، نحن نحصر كلامنا هنا في الإعلام الثقافي، غير أن الإعلام الثقافي في الستينات والسبعينات من القرن العشرين بشكل خاص كان تابعاً للإعلام السياسي، أو لنقل الإعلام الأيديولوجي أو الإعلام المسيّس والمؤدلج في تلك الموجات الفكرية والعقائدية التي شهدت صعود اليسار العربي الذي كان يتبع بالضرورة اليسار المتمثل في ما كان يسمى المعسكر الاشتراكي.

في تلك المرحلة لم ينج المثقف أو الكاتب بشكل عام من سلطة الإعلام الثقافي المسيّس أو المؤدلج، وكان ذلك الإعلام يتوسل؛ بل يتسوّل المثقف، ويطبّل ويزمّر له؛ وذلك لاعتبارات نفعية سياسية بالدرجة الأولى.

كان سؤال (ماذا يريد المثقف من الإعلام؟..» بمنزلة رشوة له، أي أن الإعلام المسيّس المؤدلج أقصد «الإعلام الثقافي» آنذاك كان يرشو المثقف؛ وذلك في إطار تمثّلات محددّة ومتعيّنة على الأرض، مثل ظهور طبقة من النقّاد المسيّسين والمؤدلجين وهم بالطبع نقاد الأدب، وكانت تلك الطبقة أو هوامشها تتحكم في الإعلام الثقافي في بلدان عقائدية مثل سوريا والعراق على سبيل المثال لا الحصر، وكان الناقد الأدبي بوصفه مسيّساً منذ البداية بوقاً وخادماً للمثقف من أجل استدراجه واستقطابه إمّا لمصلحة مؤسسة حزبية، وإما لمصلحة مؤسسة السلطة الرسمية القائمة.

مراوغة

تميزت تلك الأيام بسوق تجار الفكر والنظريات والمصطلحات الحمراء تحديداً. فمن جانب كان الإعلام الثقافي في موازاة الإعلام السياسي يهدد ويتوعّد كل من لا يصفق ويطبّل ويزمر، ومن جانب ثانٍ كان ذلك الإعلام نفسه يلمّع وَيُصَنّع ويطبّع كل من يريد أن يلتحق بِ «كتائب» الاستقطاب و«طلائع» البيع والشراء، وسوف تعاني الثقافة العربية أسوأ معاناة من الأنظمة العربية الأيديولوجية العقائدية.. اليسارية، والبعثية، وحتى تلك التي تركب على ظهر الأديان.. تلك الكيانات التي أوجدت «ثقافة» و«مثقفين» وإعلاميين مسخوا الفكر والأدب ورمّدوا «من رماد» أرواح الشعراء والأدباء والكتّاب كونهم كانوا صقور صيد وحراس الأيديولوجيات اليسارية المتنفّذة بإعلامها النفعي تحت شعارات الحرية والمساواة والعدالة؛ وإذ بهذا الإعلام الثقافي ما هو سوى إعلام المراوغة والكذب والتدليس.

تلك كانت تفصيلة صغيرة من خريطة الثنائية التقليدية في حياتنا العربية، وهي ثنائية (الثقافة والإعلام) أو (المثقف والإعلام).. وماذا يريد الأول من الثاني أو ماذا يريد الثاني من الأول، وهي ثنائية قديمة جديدة كما يقولون مثل المعادن تتمدد بالحرارة، وتتقلص بالبرودة، فإذا كانت حرارة الأنظمة الأيديولوجية الشمولية عالية فإنها تنتج مثقفين شعاراتيين بوسعهم أن يأكلوا «الزلط» على رأي أهلنا المصريين إذا اقتضى الأمر، أما إذا كانت تلك الأنظمة العقائدية باردة، فإنها تنتج مثقفين «ذرائعيين»، «تبريريين» وسرعان ما تنكشف عن وجوههم الأقنعة - أو تسقط عن عوراتهم أوراق التوت، ولأن تلك العورات كبيرة وهي بمنزلة خطايا وخطيئات، فإن أوراق التوت صغيرة عليها.. هذا ينطبق اليوم على مثقفين عرب خدمهم إعلام الأحزاب وإعلام السلطة وإعلام «الحداثة».

تحولات

.. اليوم تغيّر.. الأمر..

.. وفعلاً يبدو السؤال (ماذا يريد الإعلام من المثقف؟) سؤالاً جوهرياً إن لم يكن سؤالاً وجودياً، محدداً بمفهومات بسيطة، ومباشرة.

الإعلام نفسه تغيّر، والثقافة تغيّرت. وأسواق باعة الفكر والتفكيك والتنظير تبدو اليوم أسواقاً خربة. تجارتهم بارت؛ بل فسدت، والكرة اليوم في ملعب المثقف المستقل الذي ثبت أنه هو «الجوهر» وهو «الحقيقة».

إن إعلام الستينات والسبعينات وحتى الثمانينات - يختلف كلياً عن إعلام اليوم، إعلام اليوم المتعدد، التكنولوجي، العابر للقارات، والعابر للأيديولوجيات أيضاً. إنه إعلام الحرية بكل معنى الكلمة، وبخاصة عند القنوات المستقلة وهي قليلة. حرية محدودة، حرية ب «القطّارة» كما يقولون.

لم تنته الأيديولوجيات. لم تمت. صحيح أنها نائمة ولكنها ليست في غيبوبة- واليوم نشاهد على وجوه الشاشات الفضائية - تحديداً أكثر من إعلام سياسي ثقافي، هذه المرة طائفي أو مذهبي أو عرقي أو إثني. هناك قنوات ثقافية أو فضائيات ثقافية تحرّم وتحلّل ولها كوادرها وضيوفها وميزانياتها، وكلما توسّعت عباءات هذه المحطّات بات السؤال أكثر إلحاحاً.. ماذا يريد الإعلام من المثقف؟ هل يريد الإعلامي من الثقافي موقفاً مستقلاً في قراءته لقضية ما أو لظاهرة ما؟ أم يريد منه أن يتماهى مع سياسته، ويجاريه، وينافقه من أجل ترويج سلعة سياسية أو فكرية بعينها..

في كل الأحوال يستطيع المثقف أن ينأى بنفسه عن الإعلام النفعي، ويبتعد عن إعلام التعبئة والتحريض، وفي كل الأحوال أيضاً يستطيع المثقف أن ينجو بنفسه من تبعات لعبة المال والشهرة والاستقطاب. ولكن السؤال هو.. كيف؟

قلّة من الكتّاب العرب من حوّل نفسه إلى ظاهرة أو إلى (مؤسسة) إن جازت العبارة؛ وذلك بالعمل ليلاً نهاراً على نفسه وعلى مشروعه الأدبي شاعراً أكان أم كان روائياً أو كاتباً يحترم نفسه...

النأي عن الإعلام له ثمن، ولكنه ليس مستحيلاً، والأمثلة كثيرة بخاصة في العقود الثلاثة الأخيرة أو الأربعة الأخيرة، وسوف أعزّز فكرتي هذه بظاهرة لم يلتفت إليها أحد بكونها عاملاً عظيماً في استقلالية الكاتب وعدم تورّطه في مستنقعات الإعلام والسياسة والاستقطاب.. هذه الظاهرة هي: «الجوائز الأدبية» وعلينا أن نلاحظ هنا أنها الجوائز الأدبية، النظيفة، المستقلة، النزيهة، وإلا - فكأننا نشتري أو نرشو الكاتب بالجائزة لكن الجوائز العظيمة، والجوائز الأدبية الموضوعية ورفيعة الشأن مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب، وجائزة سلطان بن علي العويس، وجوائز معرض الشارقة الدولي للكتاب، وجوائز الرواية (البوكر) وجوائز المسرح وجوائز النشر وجميعها إماراتية، مستقلة، حقيقية.. أسهمت معاً في استقلالية عشرات الكتّاب العرب من المحيط إلى الخليج، وجعلت منهم ذواتاً قوية مكتملة ليست في حاجة إلى الإعلام، والإعلام بدوره ليس في حاجة إليهم.

هذه نقطة في منتهى الأهمية، وعلينا أن ننتبه إليها جيداً، وهي أن الجوائز الأدبية المستقلة إذا ذهبت إلى كتاب مستقلين فإنها تعمل على المدى البعيد على تدمير فضول وانتهازية الإعلام الذي يتصيد الكتّاب ويستغلّهم ويوقع بهم في عفن المؤسسات السياسية الأيديولوجية أو أشباهها.. ولكن كيف؟

نعم.. طالما استغل الإعلام الثقافي ومعه السياسي كاتباً ما أو فناناً ما، فأوقع به في جائزة أو في فضيحة أو في مؤامرة؛ وذلك بهدف اغتياله معنوياً، وكثيراً ما يؤدي الاغتيال المعنوي إلى اغتيال مادّي، جسدي أو نفسي أو عضوي.

إن الإعلام صناعة، ووراءه حيتان وجلاوزة وقطط سمان كما يقولون، وإذا أراد الإعلام أن يرفع كاتباً أو سياسياً أو حزبياً أو اقتصادياً أو قيادياً مهما كان، فإنه يفعل ذلك.

بما أن الإعلام صناعة، وهو أيضاً فن، فإن فيه شيئاً من فن الكذب، والبعض من قادة الإعلام يرشّون على موائدهم قليلاً وربما كثيراً من بهار الكذب، ومثل هذا الكذب السياسي والثقافي يمكن أن ينطلي على المثقف الذي يقع دائماً في تلك الثنائية التي بدأنا بها ثنائية المثقف والإعلام أو الثقافي والإعلامي، مع الأخذ في عين الاعتبار أخيراً أن المئات من المثقفين العرب والكتّاب يعملون أساساً في الإعلام الثقافي، وهؤلاء أو بعضهم شركاء في جريمة الإعلام حين يكون جريمة، وفي الوقت نفسه هم شركاء في فضيلة الإعلام حين يكون الإعلام فضيلة.

منظومة متكاملة

للإعلام أياً كان - الإعلام الثقافي أو السياسي أو التوجيهي أو التحريضي كوادر من علماء الاجتماع، وعلماء النفس، ووراءه صحفيون وسياسيون واقتصاديون كبار يصنعون عادة ما يُسمى ب «الإمبراطوريات الإعلامية».. وهذه يقوم عليها جيش من الموظفين والإداريين العلنيين والسرّيين.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2ue5hbtf

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"