ثقافة التجويد

04:46 صباحا
قراءة 5 دقائق

كتبنا من قبل عن ثقافة الصدق ولا نبتعد اليوم كثيراً حين نكتب عن ثقافة التجويد، فالذي نلاحظه الآن هو أن الأداء في جميع نواحي الحياة ينقصه التجويد، وأنا أعلم أن الكمال لله وحده، ولكن الإهمال والتسيب والتراخي هي صفات شيطانية إذا لحقت بمجتمع معين شدته إلى الوراء بل ودفعته إلى أسفل . وحين يتطلع المرء إلى الشوارع حولنا لابد أن يدرك أن الكثير مما يتم إنشاؤه وما يجري العمل فيه لا يتصف أبداً بالدقة والرونق اللازمين، وأنا أذكّر الجميع في البداية بقول رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)، فالتجويد وصية إلهية وليس فقط حاجة حياتية، ونحن نلاحظ كذلك أن هناك محاولة دائمة للقفز فوق المراحل واستخدام الذكاء المصري للهروب من الإتقان والبعد عن المسؤولية وإنهاء الأعمال من دون الإنجاز الكامل لها .

لقد بحثت في قواميس اللغات الأجنبية عن مرادف واحد لكلمة (الفهلوة) فلم أجد لأنها تحتاج إلى جملة كاملة لتفسيرها، فهي تعني التذاكي بخداع الغير، وطمس الحقيقة، أو هي القدرة على الإيحاء بأن شيئاً ما قد تم كما يجب، بينما لا يخلو الأمر من مسحة غش وهروب من المسؤولية، وأظن أن (الفهلوة) كلمة لعينة تعكس جزءاً مقيتاً في الشخصية المصرية المعاصرة، وقد عانينا من آثارها طويلاً وأساءت إلى صورتنا أمام الغير كثيراً، لأنها تمثل الجانب السلبي في الذكاء المصري المعروف .

أقول ذلك والألم يعتصرني حيث أرى شعباً أنتمي إليه وفيه كل مقومات الفطنة والقدرة على الفهم وتراكم الخبرة والسعي نحو توليد الفكرة بل واختراع الحل العبقري للمشكلة المعقدة بأبسط الطرق، ومع هذا فإن ذلك الشعب لم يقدّر له حتى الآن أن يعيش حياة تتناسب مع هذه القدرات العالية، ذلك لأنه يستغلها -للأسف - بغير تنظيم محكم أو برنامج ملزم أو رؤية واضحة، وإذ أكتب اليوم عن ثقافة التجويد فإنني استدعي وراءها ثقافة الصيانة، وتلك قصة أخرى سوف نأتي إليها في مرة مقبلة، ودعني الآن أبسط أمام القارئ ما يتصل بمسألة التجويد من اعتبارات:

* أولاً: إن الكثيرين ينتقدونني لأنني شخصية نمطية، حتى زوجتي وابنتي يتندرن دائماً على عشقي الشديد للنظام ورغبتي القاتلة في أن يكون كل شيء في مكانه الصحيح وحرصي الدائم على الصيانة، وأظن أن هذه مقومات موجودة لدى الكثيرين غيري، لذلك تزداد معاناتهم وتتوتر أعصابهم ويشتد سخطهم وهم يرون الفضاء المصري حولهم يعج بكل أسباب الانفلات ومظاهر الفوضى الناجمة عن الزيادة المخيفة في عدد السكان، والتراجع الواضح في مستوى سلوكيات الأفراد، وضعف الشعور بالانتماء للوطن ونقص الإحساس بالقيم المدروسة والتقاليد العريقة . إننا أمام أجيال جديدة ليست لديها رؤية واضحة لمستقبل وطنها ولا حتى تصور كامل لمشروعها الشخصي، وبالتالي فإنها تعيش في مناخ القلق وبيئة الإحباط، فلم يعد لديها رغبة في الكمال أو دافع للتجويد، بل إن الوصول السهل يبدو لهم براقاً حتى ولو كانت الوسائل رخيصة والتجاوزات صارخة .

* ثانياً: إن غياب الإتقان وضعف الضمير وانهيار المثل هي مجموعة من الأسباب التي تقف وراء اختفاء روح التجويد، فالمباني التي تنهار ورشح المياه على حوائط العمارات في إشارة سخيفة إلى التسرب من الحمامات إلى جانب الحوادث الكارثية التي تقع والدماء التي تسيل على الأسفلت كل يوم، هي كلها نتاج طبيعي لغياب الإحساس بضرورة اكتمال العمل وإجادته في أي مجال من مجالات حياتنا مع انعدام المراجعة لما هو لدينا، واستخدام الأشياء في غير موضعها والتفريط في الخطوات الطبيعية للإنجاز والشعور بالسعادة الوهمية من أن الشخص قد اقتنص فرصة بغير حق أو تجاوز خطوة لها أهمية ثم بلغ ما يريد، ولكن العائد في النهاية هو تراكم سلبي للأخطاء وإهدارٌ للطاقات بحيث تكون المحصلة الأخيرة علينا في جوهرها ونهايتها وليست لنا كما تبدو من ظاهرها وبدايتها .

* ثالثاً: إن تدهور العملية التعليمية وتراجع سمعة التعليم المصري تعودان في جزءٍ كبير منها إلى اختفاء ثقافة التجويد، إنني مازلت أتذكر أستاذي في الرياضيات في خمسينيات القرن الماضي عوض حنا كيف كان يجلس مع طلابه بعد نهاية اليوم الدراسي لمراجعة المقرر من دون مقابل، دافعه هو ضميره الوطني وحرصه على تلاميذه ورغبته الحقيقية في تجويد عمله . وأتذكر أيضاً أستاذي سيد البجاوي في المرحلة الثانوية وهو يدرس لنا تخصص الفيزياء، ويكاد ينتحر صباح مساء من أجل طلابه ورغبته الشديدة في أن يصبحوا ذوي شأنٍ في فرع تخصصه، ولقد امتدت بي الأيام بعد ذلك لكي أكون في موقع مؤثر في ثمانينيات القرن الماضي سمح لي بأن أطلب مد خدمته بعد بلوغه السن القانونية، ولقد اكتشفت أن ذلك قد تقرر بالفعل من دون وسيط لأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فأين هؤلاء الشوامخ من محترفي الدروس الخصوصية الذين لا يؤدون واجبهم التعليمي ولا دورهم الأخلاقي أثناء اليوم الدراسي؟!

* رابعاً: لقد ورد في الأثر دعاء طيب يقول اللهم اجعل خير أيامنا أواخرها وخير أعمالنا خواتمها، فلتكن لنا في هذه المقولة العظيمة أسوة نمضي بها على طريق مختلف عن ذلك الذي نسلكه، إننا محتاجون إلى يقظة الضمير وصحوة العقل وتجويد العمل وإتقان الدور مع الإحساس العميق بالمسؤولية واحترام المصلحة العامة والبعد عن الفردية واللامبالاة والتسيب وهي أمراض وفدت علينا في العقود الأخيرة .

* خامساً: لا أحلّق في الخيال ولا أتحدث عن المستحيل، ولكنني أطالب بنمط مختلف من التربية الجديدة التي تخلق المواطن العصري لأن الياباني ليس أكثر ذكاءً والألماني ليس أكثر فطنة، ولكنهما بالتأكيد أكثر تنظيماً للعمل وتجويداً في الإنتاج واحتراماً للوقت وحرصاً على الصالح العام، إنني أظن أن غياب التجويد هو صورة من صور الفساد بشكله المتخفي وصورته المقنعة لأن النتيجة واحدة في النهاية، وهي تبديد الموارد وإهدار الكفاءات وحرمان الوطن من مفهوم فريق العمل الذي يقفز بمستوى المؤسسة التي يعمل بها خطوات إلى الأمام، بل إن الفردية والشللية تسهمان معاً في الانصراف عن الإتقان وإعمال المحسوبية والواسطة بديلاً للكفاءة والخبرة، والأمر في ظني لا يدعو إلى اليأس، فهناك شعوب كثيرة تعاني من هذه الأمراض ولكن بدرجات متفاوتة، والمطلوب دائماً هو أن تكون لدينا الإرادة في تجاوز حاضرنا الصعب والقدرة على إحداث اختراقات ناجحة في المجالات المختلفة .

. . هذه ملاحظات موجزة أردت التأكيد منها وبها على أن المصري - كريم العنصرين - قادر على البناء السليم إذا أراد، ومتمكن من التجويد إذا رغب، فلديه إمكانات هائلة ومخزون تاريخي كبير وعمق حضاري عريق ولكنه - حتى الآن على الأقل - لا يؤمن بأن التجويد في العمل والإتقان في الأداء يغلبان الذكاء الحاد مع الفوضى، وينتصران على الفطنة بلا ضمير . إن ثقافة التجويد كانت ولاتزال وسوف تبقى هاجساً يؤرق العقل المصري الذي لا توجد أي أسباب حقيقية للحيلولة دون اندفاعه إلى الإمام واقتحامه المستقبل بخطوات أفضل بكثير من تلك التي يخطوها، ليتنا كنا أقل ذكاءً وأكثر إتقاناً . . ليتنا كنا أقل فطنة وأكثر تنظيماً . . ليتنا كنا أشد إدراكاً بأن الشعوب يبنيها الجهد الحقيقي والفكر المنظم والرؤية الواضحة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"