التقسيم ومستقبل سوريا

05:05 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

لا يخفي السوريون مخاوفهم من أن يؤدي استعصاء التفاوض على مبدأ الانتقال السياسي إلى ترسيخ المعطيات الراهنة، والمتصلة بانقطاع التواصل بين الجغرافيا السورية من جهة، ووجود حالة من توازن الضعف بين القوى المحلية المتصارعة، ما يمكن أن يؤدي فعلياً إلى تحوّل النتائج المؤقتة التي أفرزتها الحرب إلى معطى دائم، خصوصاً مع وجود جملة كبيرة من التناقضات في مصالح الدول الإقليمية، والتي لم تتمكن، خلال السنوات الماضية، من الوصول إلى تسوياتٍ، تمهّد لحل سياسي، ويشكل قاعدة انطلاق نحو تسويات أكبر في الشرق الأوسط.
المخاوف من التقسيم لم تعد هاجساً سورياً محضاً، فمعظم مراكز الدراسات المهتمة بالشأن السوري لا تستبعد سيناريو التقسيم من تقويمها لمآلات الصراع السوري، خصوصاً أن الوقائع على الأرض، كانت تتبدل بين جولات التفاوض، لمصلحة تثبيت قوى الأمر الواقع، بل وبلورة مدى نفوذها الجغرافي والسياسي، كما هو حاصل مع «قوات سوريا الديمقراطية»، المدعومة أمريكياً، والتي يشكل حزب «الاتحاد الديمقراطي الكردستاني»، و«قوات حماية الشعب» التابعة له، عصبها الرئيسي، حيث تؤكد الأجندة السياسية للحزب والمتحالفين معه على قيام فيدرالية في الشمال السوري، وهي الصيغة التي يجد طيف واسع من المعارضة السورية أنها مقدمة لإقامة دولة كردية.
المجتمع الدولي، ممثلاً بالأمم المتحدة، عجز، على الرغم من كل المآسي المستمرة في سوريا، عن التوصل إلى قرارات ملزمة وواضحة حول الحل السياسي، بل عجز عن إدانة النظام السوري في استخدامه الطائرات والسلاح الكيماوي ضد المدنيين، وبدا واضحاً خلال ولاية أوباما أن الولايات المتحدة قد اختارت موقف المتفرج من الفيتو الروسي- الصيني المزدوج، والذي منع مجلس الأمن من إدانة النظام السوري، بغية الضغط عليه للتعاطي بشكلٍ جدي مع مسألة الانتقال السياسي.
ومع كل مرور إضافي للوقت في ظل غياب جدية النظام السوري والمجتمع الدولي في إيجاد حل سياسي، كانت الجغرافيا السورية تخضع إلى مزيدٍ من التمزق، يزداد معها الانقسام المجتمعي، حيث طفت على السطح الانقسامات المذهبية والإثنية والمناطقية، وأصبحت عناصر فاعلة في الصراع السوري، ومن غير الممكن ضبطها في ظل تزايد حالة الاقتتال، وما تخلفه من مآسٍ، تعزز حالة الانقسام، والتي يمكن أن تصل إلى حالة اللاعودة.
ولقد كشفت الأحداث، في مجرياتها، ونتائجها، أن ما يقارب نصف قرن من حكم «حزب البعث»، الذي تبنى في شعاراته محاربة الطائفية والعشائرية والشعوبية، لم تكن سوى أكذوبة إيديولوجية، سخّرها لضبط القوى المجتمعية، من دون أن يحدث تحولاً جذرياً في المجتمع، وما بروز الانتماءات ما قبل الوطنية أو فوق الوطنية سوى تأكيد على فشل طويل ومرير في بناء هوية وطنية جامعة لعموم السوريين، وقد ظهرت تلك الانتماءات من جديد لتفعل فعلها في عودة السوريين إلى زمن ما قبل الدولة.
وكان واضحاً أن عدم وعي النظام السياسي بمسألة الدولة أسهم في زج مؤسساتها في الصراع مع الشعب، وقوى المعارضة، من دون التفكير في مآلات هذا الخيار، فقد فقدت مؤسسات الدولة معناها الوطني، وهو معنى رمزي مهم لوحدة السوريين، لكنه أصبح في الصراع الدائر رمزاً لهيمنة فئة محددة على القرار السياسي، وبات الصراع مع النظام السياسي صراعاً مع الدولة ومؤسساتها، فتلك المؤسسات هي ما يؤمّن للنظام السياسي قدرته على الاستمرار، وقدرته على اختطاف شرائح واسعة من السوريين، رهينة تقديم الخدمات لهم في مناطق نفوذه.
وإذا كان كل انهيار للدولة يستتبعه ميل القوى الناشئة لملء الفراغ، فإن القوى العسكرية التي نشأت خلال الصراع، بفعل الاحتكام للسلاح، لم تكن في معظمها قوى وطنية، ولا تمتلك برنامجاً لعموم السوريين، وإنما قوى ساعية للنفوذ، حتى أن محاربتها للنظام السياسي لم يكن عامل توحيد لها، فقد آثرت كل واحدة منها على تقوية نفوذها بشكلٍ منفرد، وإذا كانت قد انخرطت بعضها في تحالفات مع قوى أخرى، فإن تلك التحالفات كانت تنهار بسرعة، ويعود الصدام من جديد، ما يؤكد أن كل التحالفات ليست استراتيجية بالمعنى الوطني، وإنما تحالفات مؤقتة، كان هدفها الحفاظ على الوجود.
إن الصورة الراهنة لمجمل الوضع السوري تحفل بالكثير من العناصر التي يمكن أن ترجّح سيناريو التقسيم، لكن حتى هذا السيناريو نفسه ليس إرادة سورية محضة، وإنما يحتاج هو الآخر إلى توافقات دولية وإقليمية، وهذه التوافقات لا تلوح في الأفق، فما زال كل طرف من الأطراف الخارجية المنخرطة في الصراع السوري يتجنب الاعتراف بمصالح الطرف الآخر، كما يستمر اعتبار الساحة السورية ساحة استنزاف، وهو ما يجعل سوريا تعيش حالة تقسيم غير معلنة، من غير المتوقع أن تتحول إلى حالة شرعية في الأمد المنظور.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"