دعوة لعدم الخلط بين الأمور

02:17 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي
في تقرير موجز لوكالة الأنباء الفرنسية عن الذكرى السادسة للثورة الليبية التي حلّت يوم 17 شباط فبراير الجاري اعتبرت فاطمة العربي (59 عاما) وهي مواطنة ليبية أن «علينا الاحتفال بهذه الذكرى رغم كل ما يحدث اليوم في البلاد. يجب علينا ألا نخلط الأمور»، وأضافت «لا أريد أن ينسى أحفادي أهمية هذا اليوم». ما عبّرت عنه المواطنة الليبية يلخص بصورة موضوعية الموقف الصائب مما يسمى «الربيع العربي» عموماً، ومن نسخته الليبية تحديداً.
فلا أحد يستطيع أن يتنبأ مسبقاً بالمسار الذي تتخذه الأمور مستقبلاً، وقد اتخذت في ليبيا مساراً يجمع بين التراجع والانتكاس وانقضاض قوى إرهابية وغيرها على ما حصل، لكن ذلك لا يعني أن الذين انتفضوا على ديكتاتورية القذافي كانوا مخطئين، أو أنه كان على الديكتاتورية أن تتواصل إلى ما لا نهاية!.
شيء من هذا يعبر عنه مواطن ليبي آخر. فقد أرسل رضا المحمودي (62 عاما) نجليه للانضمام إلى «الحشد» في ساحة الشهداء. وأوضح «إنهما مراهقان. إذا قلت لهما إن البلاد مُعرّضة للفوضى، فلن يفهما. كل ما يحتاجان إلى معرفته هو أنه قبل ست سنوات تخلصنا من 42 عاما من ديكتاتورية وحشية». وهو تصريح سياسي بليغ لمواطن ينبض بالغيرة على وطنه وشعبه. أما المسار الذي اتجهت إليه الأمور فليس جيداً أبداً، ويحتاج إلى تصحيح نوعي. لكن قبل ست سنوات لم تكن هناك أية فرصة لتصحيح أو إصلاح، مع ديكتاتورية فردية لا تُلقي بالا لكرامة الإنسان أو لحرمة الحياة البشرية، فيما يدرك المتنازعون هذه الأيام على الحكم أن الطريق إلى إعادة إنتاج الديكتاتورية مسدود.
لقد تسابق كثير من سياسيين وأكاديميين وإعلاميين وسواهم للقول إن ما يسمى «الربيع العربي» لم يطرح بدائل لأنظمة الاستبداد أو الفساد، وأن هذا هو السبب في ما آلت إليه الأمور من بعد. حسنا لماذا لم يعمد هؤلاء من جهتهم إلى صوغ البدائل والى ملاقاة الحركة المدنية السلمية؟. لقد كان نكوص هؤلاء وسلبيتهم، هو ما قادت الأمور نحو مأزق هنا وعسر هناك، والى تدخلات خارجية في مكان آخر، والى صعود قوى ظلامية في مكان رابع.
لقد كانت الانتفاضة الليبية أشبه ب«معجزة سياسية». وكانت البلاد تنتظر المجازر من الديكتاتور، قبل أن يقع تدخل دولي خلخل بنية الدولة. وكان للفراغ المروّع في الحياة السياسية والعامة وفي إدارات الدولة وهياكلها، ما صعّب إعادة بناء الدولة التي أفرغها القذافي من كل محتوى لها وزاد الغرب الطين بلة. وعلى ذلك فإن الصعوبات البنيوية التي برزت بعد ذلك تعود إلى التركة الثقيلة التي خلفها النظام السابق، وهي تركة أقرب ما تكون إلى التصحر الإداري والفراغ القانوني وغياب العمل الجماعي المنظم حتى ولو على مستوى جمعيات مهنية مثلا. أجل تغرق البلاد للأسف الشديد في فوضى سياسية وأمنية، مع بروز آمال تكبر تارة وتتقلص تارة في احتواء الفوضى، وفي إعادة البناء السياسي والدستوري والقانوني، وفي إرساء الوحدة الوطنية ومع ذلك فإن الآلاف من الليبيين لم ينسوا تلك الأيام الفاصلة في أواسط فبراير/ شباط 2011 حينما هبوا لمواجهة نظام بدائي أعاد البلاد عقوداً إلى الوراء وقطع صلتها بالعالم الخارجي وأسس لدكتاتورية وحشية جثمت على صدور الليبيين نحو أربعة عقود.
ومن حق الأجيال الجديدة أن تتوقف أمام تلك الذكرى وتتبصر معانيها وتتسلح بالولاء للوطن والشعب ولقيم الحرية والكرامة والاستقلال. فالشعب لم يجانبه الصواب أبدا في الوقوف أمام حاكم جائر، ولا الفوضى هي من شيم هذا الشعب وطبائعه. ورغم هذا الاضطراب الشديد لنا أن نلاحظ أن الليبيين حققوا بعض الإنجازات الباهرة، فقد نجحوا في مقارعة تنظيم «داعش» الإرهابي وطرده من معقله في سرت، كما أن حدّة التوتر الأمني قد انخفضت بين القوى المتنازعة، ومعه انخفضت المواجهات المسلحة إلى أدنى حد... بما يجعل الوضع في بلد عمر المختار رغم كل ما فيه من اضطراب، أقل سوءاً من الوضع في بلدان أخرى تشهد تطاحناً دموياً منذ سنوات وعلى مدار الساعة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"