العالم مدعو إلى ذاته

03:14 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو


ليس هناك من حلول ناجعة سوى إعادة بناء مفاهيم جديدة للعيش المشترك، والمسؤوليات المشتركة.

لأول مرة في تاريخ البشرية، تُدخل الدول نفسها في حالة إعلان حرب، من دون أن يكون هناك عدو مباشر، فقد فعل فيروس «كورونا» المستجد ما لم تفعله الحربان العالميتان اللتين شهدهما القرن العشرين، حيث فرضت الدول على نفسها حالة طوارئ قصوى، واتخذت تدابير بإغلاق حدود ها، وأطاحت المعنى القانوني لمعاهداتها كتلك التي تفرضها اتفاقيات الاتحاد الأوروبي، فقد لجأت الدول الأوروبية إلى إغلاق حدودها بشكل مستقل عن قيادة بروكسل، حيث يوجد مقر قيادة الاتحاد الأوروبي، كما تباينت تدابيرها بشأن التعليم والصحة.

ووراء هذه الحالة العالمية غير المسبوقة، هلع كبير من التداعيات المتوقعة على مجمل الحياة الاقتصادية والاجتماعية، حيث بدأ علماء الاقتصاد على وجه الخصوص برصد وتحليل المؤشرات في مختلف القطاعات التي ستصيبها الأزمة المالية، كنتيجة حتمية للأوضاع والتدابير الراهنة، وقراءة مدى قدرة البنى الحكومية وغير الحكومية على تجاوزها، خصوصاً أن الأرقام الأولية تشير إلى أن حوالي 25 مليون عامل وعاملة سيفقدون وظائفهم خلال الأشهر القليلة المقبلة.

أما خطب رؤساء ومسؤولي الدول الكبرى، فقد أظهرت حالة من عدم اليقين، على الرغم من محاولاتهم إبداء نوع من التماسك، في محاولة للقول إن الأمور ستبقى تحت السيطرة، وإنهم قادرون على تجاوز الأزمة، لكن ذلك فتح المجال واسعاً أمام أسئلة حرجة أطلقها كثيرون، في مقدمتهم الفيلسوف التشيكي الشهير سلافوي جيجيك، الذي دعا إلى إعادة النظر في النظام الرأسمالي، وضرورة التوجه إلى نظام عالمي «شيوعي»، من دون أن يقول بالطبع ما هو ذلك النظام الشيوعي، وآخرون مضوا في المنحى ذاته (أي نقد النظام الرأسمالي)، ما يشير إلى أن عمق الأزمة الراهنة يتجاوز المخاطر البيولوجية، فهي مجرد رأس جبل الجليد، أما الأزمة الحقيقية فهي في صلب النظام العالمي.

خلال العقود الثلاثة الماضية، تم تجاهل كل الأسئلة الأخلاقية التي طرحها مفكرون وكتّاب حول المسار الذي تتخذه العولمة، خصوصاً أثناء وبعد الأزمة المالية العالمية في عام 2008، حيث أدت المضاربات المالية العالمية إلى حصول فقاعة مالية عالمية لا صلة لها بالقيم السوقية الحقيقية، كاشفة الجشع الكبير في النظام المالي العولمي، على حساب قيم الإنتاج الحقيقية، وتحديداً قيمة العمل التي أصبحت في أدنى سلم المنظومة الاقتصادية، في الوقت الذي راكمت فيه النخب المالية ثروات طائلة خلال سنوات قليلة، من دون أي إنتاج فعلي.

والمقارنة بين الأجور التي يحصل عليها موظفو البنوك ولاعبو كرة القدم في الأندية الشهيرة، والمديرون التنفيذيون في شركات المعلوماتية الكبرى، وبين ما يتقاضاه الأكاديميون والباحثون والكوادر الطبية، يمكنها أن توضح إلى أي مدى تراجعت المنظومة الأخلاقية العالمية، حيث تعطى الأولوية للأرباح والثروات على حساب المسائل الجوهرية مثل التعليم، والبحث العلمي، والطبابة، وخفض أسعار الدواء، وغيرها من القضايا المرتبطة بوعي المخاطر الرئيسية في كوكبنا، كما من شأنها أن تبرز معنى التضامن الحقيقي للشعوب في ما بينها.

إن مراجعة بعض الأرقام العالمية المرتبطة بسوء التصرف العالمي، والإهمال المتعمد أحياناً، من شأنها أن تدعو إلى الإحباط، فهناك أكثر من ثلاثة ملايين طفل يموتون سنوياً في العالم بسبب الجوع، وهناك أكثر من تسعة آلاف مرض، بينما عدد الأمراض التي وجد لها علاج ناجع هي حوالي خمسمئة فقط، كما أن ميزانيات الدول المخصصة للأبحاث الطبية لا ترقى إلى حجم الواقع الفعلي أو التحديات المستقبلية، وهناك بعض الدول التي تفتقد أساساً إلى أي نظام صحي فعلي، في الوقت الذي تحوز فيه نخبها السياسية والعسكرية ثروات طائلة لضمان استمرار حكمها، كما في كثير من بلدان آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.

بالعودة إلى الأزمة الراهنة التي فرضها فيروس «كورونا» المستجد، وما سيتبعها من تداعيات، فإن العالم بهيئاته الكبرى، وحكوماته ونخبه ومفكريه، وكل من له علاقة بالشأن العام، أمام فرصة كبرى للتفكير في إعادة ترتيب الأولويات من جديد، ففي ظل النظام العولمي أصبحت التحديات مشتركة، ولا يمكن التعاطي معها بشكل منفرد، كما لا يمكن العودة إلى الأنظمة الحمائية القديمة التي أصبحت جزءاً من الماضي، وليس هناك من حلول ناجعة سوى إعادة بناء مفاهيم جديدة للعيش المشترك، والمسؤوليات المشتركة، وإعادة إيلاء مفهوم السلم العالمي أهمية كبرى، ليس قولاً وإنما فعلاً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"