رأي فرنسي صادم حول إرهاب «داعش»

02:46 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.غسان العزي
من يزُر باريس في هذه الأيام يلاحظْ أن رفوف مكتباتها، وهي من الأكبر والأغنى في العالم، لا تضمّ تقريباً إلا كتباً عن الإسلام الراديكالي، والإرهاب، و»داعش»، وما حولها من مواضيع، وتتشابه مضامينها إلى حد كبير، إلا واحداً يخرج عن السياق، هو كتاب ميشال أونفري بعنوان «التفكّر في الإسلام»، وهو فيلسوف غزير الإنتاج، له عدد لا يحصى من الكتب والدراسات والمقالات. قراؤه كثر ومؤلفاته «تباع كالخبز» على ما يقال عنه، فقد شكل ظاهرة في فرنسا بسبب آرائه الجريئة والمتميزة. وكتابه الجديد لا يخرج عن هذا السياق لما يحويه من آراء تخرج عن المألوف السائد في موضوع الإرهاب الذي ضرب فرنسا، ولا يزال يهدّدها. هذا السائد ينقسم بين نوعين من ردود الفعل على العمليات الإرهابية ومواضيع اندماج المسلمين في فرنسا، وارتداء الحجاب والبرقع والبوركيني: الأول «اسلاموفوبي»، يعتبر أن الإسلام بطبيعته لا يندمج في الديمقراطية، وبالتالي ينبغي التعامل مع المسلمين على أنهم أعداء الجمهورية، والثاني يعتبر أن لا تناقض البتة بين الدين الإسلامي والديمقراطية، وأن الجمهورية هي التي فشلت في إدماج المسلمين، ولا ذنب لهم إذا كانت ثمة أقلية في صفوفهم تمارس الإرهاب لدوافع لا علاقة للإسلام بها.
ويرفض أونفري الرأيين معاً، ويهاجم اليمين واليسار على السواء، لأنهما سارا في ركاب الحروب الأمريكية والأطلسية على دول إسلامية عدة منذ العام 1991، ومن الطبيعي والحال هذه، وبما أننا «في حرب»، كما أعلن الرئيس هولاند مؤخراً، أن يأتي رد الإسلاميين عبر الإرهاب لأنهم لا يملكون طائرات وصواريخ عابرة للقارات. والدول الإسلامية هذه لم تكن تهدد فرنسا، والغرب هو الذي بدأ بالاعتداء عليها، ونهب ثرواتها الباطنية المهمة لطريقة العيش الاستهلاكية في الغرب، ولأن تجار السلاح الذين يصنعون القوانين في أمريكا، وبالتالي في العالم، يريدون إنعاش تجارتهم. ويتساءل الفيلسوف، إذا كانت حقوق الإنسان هي السبب الحقيقي للحروب كما يدعون، فلماذا لا يهاجمون دولاً تعبث بمثل هذه الحقوق، كالصين، أو كوبا، أو إيران، أو حتى الولايات المتحدة؟ تكفي قراءة تقارير منظمة العفو الدولية لنعثر على الكثير من الأهداف العسكرية.
وفي رأيه، تمارس فرنسا سياسة سكيزوفرينية، إسلاموفوبية في الخارج وإسلاموفيلية في الداخل. الحكومات اليمينية واليسارية المتتالية هاجمت المسلمين في أفغانستان، ومالي، والعراق، وليبيا، وغيرها بذريعة مكافحة الإرهاب، وكل المثقفين تقريباً دعموا هذه الحروب (يخص بالذكر برنار هنري ليفي)، وبما أن هذه الحروب ضد المسلمين تتكرر منذ ربع قرن، فقد انتهت بتحويل فرنسا إلى هدف عسكري.
لقد مات الشعب، وحل محله قطعان تحركها وسائل الإعلام. لم تعد المدرسة مصنع الضمائر، فقد بيعت إلى السوق وأيديولوجياته، وحلت محلها الشاشات (التلفزيون، وإنترنت، وتويتر...). وسائل الإعلام لا تريد من الشعوب أن تفكر، وتحلل، بل أن تسير كرجل واحد خلف شعارات مثل «أنا شارلي»، والشعب الذي لا يفكر يمكن قيادته وتوجيهه وحكمه بسهولة. والدليل أن شعبية هولاند قفزت 20% بمجرد أنه نظم تظاهرة في باريس غداة جريمة شارلي إيبدو، ودعا إليها قادة من العالم بناء على نصيحة مستشاره الإعلامي.
وينتقد الفيلسوف وسائل الإعلام بشكل لاذع، لكن تنبغي الملاحظة أنه من أبرز الوجوه الإعلامية على المستوى الأوروبي، وهي التي صنعت شهرته.
يدعو أونفري إلى التفكير في العمليات الإرهابية في فرنسا «بمنطق جيوبوليتيكي دولي، وجيواستراتيجي عالمي من ضمنه صراع الحضارات ما بين الإسلام والغرب». ما حصل يشرحه كرد فعل للضعيف حيال القوي عبر ما سماه كلاوزفيتز «الحرب الصغيرة»، أي حرب العصابات التي يمارسها أولئك الذين لا يملكون الوسائل التي تملكها الدول، والجيوش النظامية. وسائل الإعلام تبرز وحشية صور قطع الرؤوس من قبل إرهابيي «داعش» الذين يضحون برابرة في مواجهة الغرب الحضاري، كما تسلط الأضواء على هؤلاء الإرهابيين الذين يحطمون التماثيل، والآثار القديمة، لكنها لا تعرض صور الأطفال والشيوخ والنساء الذين تقتلهم قاذفات التحالف الأمريكي، ولا صور الإرث العالمي لليونسكو، في العراق مهد الحضارات البابلية، وما بين النهرين، الذي دمره الأمريكيون بغزوهم لهذا البلد المسلم في العام 2003. وهكذا فإن مقاتلي «داعش» كما يقول، يفعلون بوسائلهم البدائية (سكاكين وبنادق لا تزيد تكلفة الواحدة منها على ٥٠٠ يورو)، تماماً ما يفعله الأمريكيون على مستوى أوسع بتقنيات جد متقدمة وطائرات تكلفة الواحدة منها مئات الملايين من الدولارات. ويرى أن الصراع ليس بين البرابرة والمتحضرين، ولكن بين رؤيتين للعالم، وحضارتين تمادت الواحدة منهما في إهانة، واستغلال، وإخضاع الأخرى.
كثيرون اتهموا أونفري بتفهم الإرهاب،إذاً بتبريره، فرد الأخير بأن ما يفعل هو«العودة إلى فلسفة الأنوار ،وبأن التفكير بحرية بات صعباً في فرنسا، ذلك أن التأكيد بأن مثاليات الأنوار لا تزال راهنة يعني الظهور بمظهر الرجعي واليميني المتطرف والفاشي. ولو عاد فولتير إلى الحياة في فرنسا لاتهم بأنه يدافع عن التعصب».
يدعو الكاتب إلى «إسلام جمهوري»، كما يدعو الجمهورية إلى وقف التدخل في شؤون الدول الإسلامية، وشن الحروب عليها، والى دمج الإسلام المسالم في فرنسا عبر إجراءات ثقافية وتربوية وتمويل المساجد، منعاً للتمويل الخارجي وتدريب، الأئمة، وما شابه. لكن مقترحاته العملية تبقى أقل أهمية من تحليلاته الصادمة التي تخرج عن إطار الأفكار الرائجة في مواضيع شديدة الحساسية.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"