«الكتلة التاريخية» في العالم العربي

02:00 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو
أوجد أنطونيو جرامشي المفكر الإيطالي والمناضل السياسي اليساري (1891-1937) مصطلح «الكتلة التاريخية» في سياق بحثه عن عوامل التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي في بلده إيطاليا، والذي كان يعاني آنذاك تفاوتاً كبيراً بين شمال صناعي، تقوده نخب حداثية، وبين جنوب زراعي، تهيمن عليه قوى محافظة. وأراد جرامشي عبر ما أسماه «الكتلة التاريخية» أن يحدث نوعاً من الانخراط العملي في الرؤى والأهداف بين الكتلة الاجتماعية وبين النخب الحداثية، يهدف إلى إحداث تغيير في المجتمع الإيطالي، يطيح بهيمنة القوى التقليدية المهيمنة، ويحقق توزيعاً عادلاً في الثروة.
وإذا كانت محاولتنا هذه تتضمن تبسيطاً لمفهوم جرامشي، فذلك لهدف فكري وعملي في آن واحد، وهو مقاربة ظاهرة فشل النخب العربية المحسوبة على اليسار في بناء مشروع «الكتلة التاريخية»، بوصفها (أي كما ترى نفسها) صاحبة مشروع تغيير حداثي، يقع على النقيض من القوى المحافظة المهيمنة في العالم العربي، حتى أن تلك القوى اليسارية تحولت من صاحبة مشروع تغييري إلى قوى عطالة، بل أنها اندمجت في مواقفها خلال السنوات الأخيرة مع نقيضها التاريخي، أي قوى الهيمنة، وتحوّلت من قوى تأسست على طرق تفكير تقوم على فهم الواقع وتفسيره بديناميته الخاصة إلى قوى تتبنى نظرية المؤامرة، وتدافع عنها، وهو تحوّل ينم عن انتكاسة كبيرة من جهة، وعن عدم أصالة في المنهج من جهة أخرى.
وإذا كنّا نستطيع اليوم، وبعد مرور عدة عقود، أن نجد أوجه تشابه بين المشروع الناصري وبين مشروع «الكتلة التاريخية» لدى جرامشي، إلا أنه يمكننا القول أيضاً، وبسبب من مآلات التجربة الناصرية نفسها، إن ارتباط نخبة المشروع الناصري بالجماهير الطامحة للتغيير تمدّد خارج الحدود الوطنية، في مسعى لاكتساب شرعية قومية، وهو ما جعل من قضايا الخارج أهم من قضايا الداخل، بل وعلى حسابها، وهو ما ستتكشف آثاره لاحقاً، عبر الأزمات البنيوية العميقة للمجتمع والاقتصاد.
إن مقاربة المشروع الناصري من زاوية «الكتلة التاريخية» يهدف هنا إلى وضع التجربة الناصرية بوصفها المثال الأبرز في عالمنا العربي، والذي توافرت فيه عناصر موضوعية لالتحام النخبة الطامحة إلى التغيير بالكتلة الأكبر صاحبة المصلحة في التغيير، لكن من دون الغرق في تفاصيل المقاربة، وهو الأمر الذي يحتاج إلى بحث خاص.
وعلى الرغم من تبني اليسار العربي بمختلف مشاربه الفكرية والأيديولوجية مقاربات للتغيير تقوم على الارتباط بين النخبة وبين الكتل الاجتماعية، من مثل العمال والفلاحين، إلا أن اليسار العربي فشل فعلياً، وعلى مدار عقود، في أن يلتحم بتلك الجماهير، والتي بقيت مجرد صور في أدبياته الحزبية، وليست كتلاً واقعية، يمكن العمل معها، والتأثير فيها، وقيادتها.
وفي واحدة من المفارقات التي تكشف حجم الكارثة أن اليسار الذي تحدّث باسم الفئات الاجتماعية الفقيرة والمهمّشة قد تركها فعلياً تذهب إلى القوى المحافظة، والتي تمكنت، بفعل عوامل عدة، أن تستثمر في تلك الفئات، وأن تقودها عكس مصالحها الحقيقية، وأن تجعل منها، كما في بعض نماذج دول «الربيع العربي»، إلى وقود في مشاريعها الظلامية، حيث أخرجت القوى المحافظة والراديكالية الصراع الطبقي والاجتماعي عن سكته، ووضعته على سككٍ أخرى، منها بالطبع سكك الصراع المذهبي والطائفي، وهو ما يتناقض على طول الخط مع أي أهداف تقدمية- تاريخية.
لقد لعب الكثير من قوى اليسار العربي، في العقود الماضية، أدواراً انتهازية عدة، حيث تحوّلت إلى رديف ضعيف في صفوف قوى الهيمنة والنفوذ، فاقدة بذلك مصداقيتها عند الفئات الاجتماعية، مخرجة نفسها من الواقع الموضوعي، ولم تتمكّن من قراءة واقع الصدام الحتمي الذي كانت تشير إليه الوقائع والمعطيات، تاركة استحقاق التغيير التاريخي يخرج عن مساره، ويتحوّل إلى صدام بين قوى محافظة من ذات الطبيعة المعادية للتقدم، كما في الصراع السوري، والذي تحوّل من انتفاضة ذات أهداف سياسية واجتماعية واقتصادية وطنية إلى صراع بين نظام أمني عسكري وقوى إسلامية راديكالية.
إن ولوج مرحلة تاريخية جديدة في العالم العربي سيبقى أمراً يشبه المستحيل في ظل غياب قوى جديدة، تأخذ على عاتقها مهام متعددة ومتداخلة، لكنها ليست متناقضة، فالنهوض بالواقع الاجتماعي والاقتصادي للشعوب لا يمكن أن يحدث في عالمنا الراهن من دون تبني قيم العقلانية والحداثة والكونية، كما أن تلك القيم يجب ألا تتحوّل عند النخب إلى حالة اغتراب عن الفئات الاجتماعية المهمّشة والفقيرة، إذ لا يمكن لأي حداثة أن تكون قاطرة للتغيير إذا لم تنتصر عبر برامجها التي تطال أوسع الشرائح الاجتماعية، وهو ما يتطلب شكلاً من أشكال المعرفة الجديدة لدى النخب، وشكلاً من أشكال الممارسات الخلاقة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"