المغرب ورهانات ربط المسؤولية بالمحاسبة

05:14 صباحا
قراءة 4 دقائق

د.إدريس لكريني

في الرابع والعشرين من شهر أكتوبر المنصرم، وعلى إثر استقبال العاهل المغربي للرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات (الهيئة العليا لمراقبة المالية العمومية بالمغرب)، الذي قدّم أمامه تقريراً مفصّلاً بشأن نتائج وخلاصات المجلس بصدد برنامج «الحسيمة منارة المتوسط»، وقف فيه المجلس على مجموعة من الاختلالات التي عرفها المشروع على عهد الحكومة السابقة، قام العاهل المغربي محمد السادس استناداً إلى مقتضيات الفصل 47 من الدستور، وبعد استشارة رئيس الحكومة، بإعفاء عدد من المسؤولين الوزاريين، فيما عبّر أيضاً عن عدم رضاه عن أداء عدد من المسؤولين في الحكومة السابقة المعنيين بهذه الاختلالات، مؤكداً أنه لن تسند إليهم أية مهام رسمية في المستقبل.
ورغم تأكيده عدم وجود غشّ أو اختلاسات مالية صاحبا هذا المشروع الذي سبق للملك أن أعطى انطلاقته عام 2015، فقد كشف التقرير عن تقصير واضح، اعترى أداء مجموعة من القطاعات الوزارية والمؤسسات العمومية من حيث عدم المواكبة والمراقبة، بما أدى إلى تأخّر واضح، يتنافى في مجمله مع التزاماتها فيما يتعلق بإنجاز المشاريع المبرمجة بصورة غير مبرّرة.
وجدير بالذكر أن هذا التقصير خلّف استياء كبيراً في أوساط الساكنة، ودفع بعدد كبير منهم إلى تنظيم احتجاجات في منطقة الحسيمة (شمالي المغرب) على امتداد عدّة أشهر.
يستند هذا الإجراء الصارم إلى المكانة الوازنة للمؤسسة الملكية على المستويين الدستوري والسياسي، وما يتصل بذلك من امتلاكها لصلاحيات مرتبطة بالسهر على احترام الدستور وضمان حسن سير المؤسسات وصيانة الاختيار الديمقراطي وحماية حقوق وحريات المواطنين.. كما ينسجم أيضاً مع متطلبات ربط المسؤولية بالمحاسبة التي أكد عليها الدّستور المغربي في الفقرة الثانية من الفصل 154 والتي تنصّ على أن «المرافق العمومية تخضع لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية، وتخضع في تسييرها للمبادئ والقيم الدّيمقراطية التي أقرها الدستور». وفي الفقرة الثانية من الفصل الأول منه، والتي تشير إلى أن «النظام الدستوري للمملكة يقوم على أساس فصل السّلطات، وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطنة والتشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيّدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة».
سبقت هذه الخطوة مجموعة من التحذيرات أطلقها الملك ضمن خطاباته الأخيرة، لم يخف فيها استياءه من الإشكالات والاختلالات التي تطبع أداء النخب السياسية والإدارية على مستوى تدبير الشأن العام..
فقد تضمّن خطاب العرش لشهر يوليو/ تموز الماضي، دعوة واضحة إلى تجاوز المقاربات الحزبية والسياسية الضيّقة التي تستحضر الحزب دون الوطن، وهي رسالة موجّهة بالأساس إلى النخب التي ما زال همّها الحصول على المقاعد بالبرلمان والمجالس الترابية، وهاجسها الوصول للسلطة دون أن تتحمّل مسؤوليتها فيما يتعلق بالتجاوب مع قضايا المواطنين، والانفتاح على احتياجاتهم في مختلف أبعادها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية..
كما دعا فيه مختلف النخب السياسية والإدارية إلى توخي تدبير استراتيجي منفتح ومتطور.. وإلى ترجمة المبدأ الدستوري القاضي بربط المسؤولية بالمحاسبة على أرض الواقع، معتبراً أن الأمر لا يتعلّق بشعار مرحلي أو مجرّد خطاب للاستهلاك، بل بمبدأ صارم يسائل بقوة النخب السياسية أو الإدارية التي تتحمّل المسؤوليات في العديد من المجالات، مطالباً إياها بتحمّل المسؤوليات الملقاة على عاتقها أو تقديم الاستقالة بدل محاولة التنصّل منها بطرق ملتوية..
وخلال افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية من الولاية العاشرة بتاريخ 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2017، أكّد العاهل المغربي أن النموذج التنموي للمغرب لم يعد قادراً على الاستجابة لتطلعات المواطن، ودعا الحكومة والبرلمان بغرفتيه ومختلف الهيئات والمؤسسات ذات الصلة لإعادة النظر في هذا النموذج لمواكبة التطورات التي تعرفها البلاد. كما نبّه مرّة أخرى إلى أن المغرب يعيش اليوم في ظروف حاسمة تقوم على ربط المسؤولية بالمحاسبة، مشيراً إلى أن المرحلة الراهنة تفرض اعتماد مزيد من الصرامة كسبيل للقطع مع كل مظاهر التهاون في التعاطي مع متطلبات ومصالح المواطنين.
انصبّت مجمل هذه الخطابات على نقد أداء مختلف الفاعلين في مجال تدبير السياسات العمومية، وعلى الدعوة المتكرّرة إلى بلورة تدبير ناجع وتحمّل المسؤولية بصورة بنّاءة..
وتحيل واقعة عزل الوزراء والمسؤولين التي جاءت في مضمونها وشكلها منسجمة مع مقتضيات الدستور التي تدعم ربط المسؤولية بالمحاسبة، واستحضار تقرير المجلس الأعلى للحسابات باعتباره مؤسسة دستورية، واستشارة رئيس الحكومة في هذا الصدد.. إلى عدم الرضا عن أداء وتدبير عدد من النخب والفعاليات التي لم تستوعب بعد لا مقتضيات دستور 2011 ولا متطلبات وتحديات المرحلة، ولا المكتسبات التشريعية التي راكمها المغرب على مستوى تعزيز الخيار الجهوي..
يشكّل هذا العزل محطّة تقتضي استيعاب مضامينها من قبل مختلف السلطات والفاعلين من مؤسسات عمومية ونخب برلمانية وحكومية وإدارية، وأحزاب سياسية من حيث الانخراط الفعّال في ترسيخ احترام المقتضيات الدستورية ذات الصلة بالحوكمة وربط المسؤولية بالمحاسبة، واعتماد تدبير عمومي استراتيجي متطور ومنفتح يدعم تحقيق الجودة في الأداء والاستجابة للحاجات المطروحة، ويتأسّس على رقابة ناجعة تنخرط فيها السلطات الإدارية ذاتها من جهة، وأخرى تقودها السلطة القضائية، بشكل يقطع مع كل مظاهر الإفلات من العقاب..

[email protected] 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"