ابتكار النظام العالمي

05:22 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال لقائه بالكونجرس الأمريكي، إلى «إعادة ابتكار النظام العالمي»، في إطار تأكيده على ضرورة أن يكون هذا النظام «متعدد الأطراف». ويعيد طرح الرئيس الفرنسي إلى الواجهة الإشكاليات العديدة التي يعاني منها النظام الدولي، والتي ظهرت بوضوح مؤخراً مع عودة مؤشرات الحرب الباردة، بين الولايات المتحدة والغرب من جهة وروسيا من جهة أخرى، بالإضافة إلى الوضع المضطرب في الشرق الأوسط، حيث تضرب الفوضى منذ سنوات أكثر من بلد عربي، مع وجود نذر اشتعال حروب مباشرة بين الدول، وفي مقدمتها حرب أصبحت محتملة بين إيران و«إسرائيل»، قد تكون الأرض السورية الملتهبة أصلاً ساحتها الرئيسية.
دعوة الرئيس ماكرون إلى نظام دولي جديد تعكس شعوراً متنامياً عند عدد من الأطراف الدولية بأن الأوضاع العالمية قد تنزلق نحو مواجهات خطرة على مصالح القوى النافذة في النظام الدولي، وبأن عدداً من ملامح القرن التاسع عشر راحت تظهر في ثنايا سياسات القرن الحالي، خصوصاً مع استعادة بعض القوى الدولية للسياسات القومية، بطابعها الاستعماري، وهو ما أشار إليه الرئيس ماكرون في الكلمة ذاتها، بقوله «لا أتفق مع وهم القومية»، مستعيداً بذلك تاريخاً من الصراعات التي كانت سبباً في إشعال حربين عالميتين، كانت أوروبا مسرحهما الرئيسي.
إن وهم التفرّد الأمريكي بقيادة المجتمع الدولي هو واحدة من مشكلات النظام الدولي، بعد نهاية النظام الدولي ثنائي القطبية في مطلع تسعينات القرن الماضي، فقد قاد هذا الوهم الولايات المتحدة إلى الاندفاع نحو الشرق الأوسط من أجل تغيير المعادلات فيه، والهيمنة عليه، فجاءت خطوة الحرب على العراق، وإسقاط نظامه السياسي، والتي كانت مقدمة لفوضى عارمة في مجمل المنطقة، ستجعل الجميع ينخرط فيها، من دون القدرة على محاصرتها، بل إنها فتحت الباب أمام كوارث جديدة، ليس واضحاً بعد كيف ستكون نهاياتها.
الاستراتيجية الأمريكية التي أطلقها الأمريكيون، والمتمثلة ب«الفوضى الخلاقة»، لم تلقَ في وقتها نقداً أوروبياً، بل انخرطت بريطانيا مع الولايات المتحدة في تلك الاستراتيجية في العراق، من دون حسابات بعيدة المدى حول الآثار المدمرة لتلك الاستراتيجية، وكان الهمّ الأكبر للولايات المتحدة هو تأكيد سيطرتها المطلقة على منابع الطاقة في العالم، بما يخدم تربعها على عرش سوق العمل الدولي لعقود مقبلة، وإضعاف أي تنافس دولي لها.
بعد نهاية نظام ثنائي القطبية، راح الدور الأوروبي ينحسر، ويأخذ شكل التابع الكلي للولايات المتحدة، فقد قبل الأوروبيون تسليم ملف الأمن لأمريكا مقابل حماية مصالحهم، وهو ما بدا لهم مريحاً بشكل كبير، لكن تلك الصفقة المتمثلة بالأمن مقابل المصالح ستصبح مع الوقت أحد أسباب الخلل الذي سيعتري النظام الدولي، لأنها ستفقده الثقل السياسي الأوروبي، وستجعل الولايات المتحدة تقود العالم بسياسات فيها الكثير من التجريبية، بل ومستفزة لأطراف عديدة في العالم، كما أنها من حيث المبدأ لا يمكن أن تقود إلى حالة من توازن المصالح.
إن الاعتراف الفرنسي، عبر الرئيس ماكرون، بضرورة إعادة بناء النظام الدولي، بما يستبعد الأوهام القومية، يحمل طموحاً فرنسياً بمشاركة أمريكا في قيادة النظام الدولي، لكن في الوقت ذاته يحمل طابع المواجهة مع قوى عديدة في العالم، فعلى الرغم من التنسيق الأمريكي -البريطاني- الفرنسي في الضربة على منشآت تتصل بما تردد عن استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا، والتي تعد من مؤشرات الشراكة الجديدة بين الدول الثلاث على مستوى النظام الدولي، إلا أنها تأتي فعلياً في مواجهة التحديات الروسية والإيرانية، وهما الدولتان المقصودتان، بشكل رئيسي، بعبارة «الأوهام القومية»، في كلمة الرئيس ماكرون.
إن السؤال الذي يطرح نفسه، بخصوص إعادة تشكيل النظام الدولي، هو: هل المقصود أن يكون النظام الدولي الجديد قائماً على الاستقرار الذي يأخذ بعين الاعتبار الحاجة إلى شراكة واسعة في النظام الدولي، أم إعادة تحديد المستفيدين من النظام الدولي، في ظل عودة الحاجة الأمريكية إلى تحالف مع دول أوروبية قوية، مثل فرنسا وبريطانيا؟
إن السياسات الراهنة التي يتبعها اللاعبون الدوليون لا تنم عن رغبة بتقديم تنازلات ضرورية، من أجل بناء نظام دولي، قائم على الاستقرار، بل عن توجهات راديكالية عند جميع اللاعبين، والعودة إلى زمن التكتلات والتحالفات والحشد من أجل المواجهة. فإذا كان بعض اللاعبين يستعيدون سياسات قومية توسعية مباشرة، فإن استعادة صيغ الحرب الباردة من قبل الغرب، لن تكون مجدية في المضي نحو بناء نظام دولي مستقر، بل إنها ستفضي إلى مزيد من عدم الاستقرار.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"