لماذا التركيز على الصين والهند؟

05:30 صباحا
قراءة 5 دقائق
د . لويس حبيقة
لا يخلو مقال في الصحف أو المجلات العادية أو المتخصصة أو البرامج الإذاعية أو التلفزيونية من ذكر أو تعليق أو تحليل للأوضاع الهندية والصينية وتأثيرها في الاقتصاد العالمي . في الماضي، كان العالم مهتماً بما يحصل في الولايات المتحدة واليابان وألمانيا والغرب عموماً، أما اليوم فالأنظار متوجهة بفضل الثقل الاقتصادي الجديد إلى ما يحصل في آسيا وخصوصاً في الهند والصين . في الواقع لم يحصل في العالم أن دولتين كبيرتين تحتويان على 3 .2 مليار شخص أو 38% من المجموع العالمي تحققان نمواً كبيراً مدهشاً متواصلاً، كما يحصل معهما اليوم . يشكل الناتج الصيني نحو 5% من العالمي مقارنة ب 2% للهندي . في الماضي كانت الدول الكبيرة تنمو بنسب ضئيلة والدول الصغيرة بنسب قوية، أما فيما يخص الجباران الآسيويان العكس صحيح، كما تشير إليه كل الإحصائيات . كانت نسبة النمو الصيني السنوية في العقد الأخير نحو 9% مقارنة ب 6% للهند وهي مرتفعة بكل المعايير .
بالرغم من النمو والإنجازات، لا يمكن تجاهل الفقر الذي يبقى كبيراً إذ تشير الإحصائيات إلى أن ثلث فقراء العالم يعيش في الدولتين وبالتالي محاربة الفقر تبدأ وتنتهي فيهما . لا ننكر أبداً أن الدولتين حققتا إنجازات كبيرة في محاربة الفقر، إلا أن الطريق ما زالت طويلة وشاقة . هنالك من يخشى هذه القوة الآسيوية ليس سياسياً فقط وإنما عسكرياً واقتصادياً واجتماعياً وبالتالي فالعالم الغربي وربما غيره ليسوا مرتاحين إلى هذه القوة المتنامية والضاغطة تدريجياً على المجتمع الدولي . هنالك من يخشى أيضاً أن تؤثر القوتان في مستوى الأجور والتضخم وكيفية وسرعة استهلاك الطاقة والمواد الأولية من دون أن ينسى أحد قدرتهما على تمويل جيوش كبيرة وعديدة برؤوس نووية متعددة الاتجاهات والقوة . هنالك واقع يشير إلى رغبة الدولتين في توسيع نفوذهما السياسي والجغرافي، وبالتالي يتحديان بذلك العالم الغربي المتربع على عرش المؤسسات الدولية منذ سنة 1944 على الأقل .
ليس هنالك نمو قوي من دون تلوث، فما هي السياسات الخضر المتبعة التي يمكن أن تتبع لتخفيف بث السموم القاتلة نتيجة الإنتاج وعدم التقيد بالسياسات البيئية . الدولتان تهملان معالجة التلوث، بل تعتبران أن هذه السياسات وضعت لإعاقة نموهما . في الواقع، من يهمل دراسة الواقعين الصيني والهندي يهمل دراسة المستقبل، دولاً وشعوباً . هنالك من يشك في إمكانية الجبارين في الحفاظ على نسب نمو قوية حتى لو تدنت قليلاً بسبب بعض الخلل الداخلي في القطاع المالي وفي الأنظمة المنعكسة على السياسة والممارسة الحكومية . هنالك من جهة أخرى من يحاول أن يفهم ما جرى في كل من الهند والصين بحيث يأخذ الدروس المناسبة التي يمكن تطبيقها في الدول النامية والناشئة التي تحاول من دون نجاح تحقيق النمو القوي المتواصل . في كل حال ومن دون أي شك، ستلعب الدولتان دوراً كبيراً وقوياً في مستقبل الاقتصاد الدولي مع استمرار السياسات الإصلاحية في كل القطاعات وخاصة المالي والنقدي .
لا بد لفهم الحاضر من العودة للماضي وأن نتذكر أن الدولتين الآسيويتين كانتا متقدمتان جداً في القرون الماضية أي في حدود سنة 1500 . التكنولوجيا الصينية كانت متطورة في قطاعات عدة منها الطباعة والصناعات المعدنية والورقية . لهما حضارتان غنيتان انعكستا على الإنتاجية الاقتصادية التي كانت تسبق الغرب . ماذا حصل ولماذا تحقق هذا السقوط خلال القرون الخمسة الماضية؟ تشير الدراسات في الصين إلى أسباب متعددة أهمها ضعف المؤسسات والأنظمة الاجتماعية والاعتقادات والممارسات الدينية والعقائدية التي قتلت التغيير، بل لم تتطور لتواكب التقدم التكنولوجي والاجتماعي الحاصل . أما الهند فكانت متقدمة جداً في بعض القطاعات وأهمها النسيج، لكنها عانت كثيراً الاحتلال البريطاني الذي أعاق تطورها عندما منع مثلاً استيراد النسيج الهندي حفاظاً على الصناعة الوطنية . في سنة 1750 كانت الصناعة النسيجية الهندية تشكل 25% من الإنتاج العالمي، لكنها تدنت إلى 2% في سنة 1900 . تحقق السقوط الهندي بسبب الهيكلية الاجتماعية والثقافية التي لم تتطور مما أثر سلباً في الاستثمارات .
إذا كانت الأوضاع الصينية والهندية متشابهة إلى حد بعيد، فهذا لا يعني أن النتائج متقاربة . في نسبة الصادرات الصناعية الوطنية من العالمية كانت 8 .0% و5 .0% في الصين والهند . أما في سنة ،2004 فأصبحت النسب 3 .8% للصين و 9 .0% للهند . في الواردات الصناعية، كانت النسب من المجموع العالمي تعادل 1 .1% للصين و5 .0% للهند في سنة 1980 . في سنة ،2004 وصلت هذه النسب إلى 3 .6% للصين و8 .0% للهند مما يشير إلى تطور الصين استيرادها للسلع في سبيل الإنتاج والتطور . هذا يفسر إلى حد بعيد رغبة الاقتصادات الغربية في الاستثمار والإنتاج في الصين وثم استيراد السلع الصناعية منها . في سنة ،2013 بلغ الاستثمار الأجنبي المباشر 124 مليار دولار في الصين مقارنة فقط ب 28 مليار دولار في الهند مما يعكس الرغبة في التوافد الى الصين بسبب القوانين والمؤسسات المتقدمة نسبياً على الهند . في مؤشر التنافسية الدولية السنوي، تقع الصين في المرتبة 28 مقابل المركز ال 71 للهند مما يشير إلى تقدم الأولى في العديد من الحقول بما فيها التعليم .
هنالك مؤشرات جديدة تقع في صالح الهند نتيجة فوز "مودي" في الانتخابات الأخيرة وعودته إلى تنفيذ الإصلاحات التي بدأ فيها "سينغ" وتوقفت فيما بعد . هنالك رهانات على الصناعة الهندية في مجال الحاسوب والمعلومات والمعلوماتية التي تطورت كثيراً في السابق ولم تكمل مسيرتها . في مؤشر سهولة الأعمال الذي يصدره البنك الدولي، تقع الصين في المرتبة 90 وهي ليست جيدة لكن مقارنة بالهند التي تحتل المركز 142 تصبح متفوقة . في الدولتين، هنالك ضرورة لتسهيل إجراءات وقواعد وقوانين الاستثمارات بحيث تشجع ولا تعيق كما يحصل اليوم . هنالك مسيرتان مختلفتان للاقتصادين الآسيوين:
أولاً: تطور الاقتصاد الصيني بفضل مركزية القرار بالرغم من الفساد المنتشر والتي تعد القيادة بمحاربته من دون نجاح حتى اليوم . في الهند، التعثر يأتي خصوصاً من الإدارة وأنظمتها الشائخة والموروثة إلى حد بعيد من الاستعمار البريطاني . في مؤشر الفساد الصادر عن مؤسسة الشفافية الدولية، تقع الهند في المرتبة 85 بينما الصين في المركز المئة وبالتالي هنالك إصلاحات ضرورية يجب أن تتحق في المجتمعين .
ثانياً: لم تتأقلم القوانين والمؤسسات الهندية كما فعلت الصين لاستقطاب الاستثمارات والصناعات المتطورة . هل الديمقراطية هي السبب وبالتالي تغير القيادات والأحزاب في قمة السلطة؟ ربما فللديموقراطية ثمن، إلا أن فوائدها تبقى أكبر بكثير بالنسبة للشعوب . لأن الإصلاحات تعثرت في الهند كما ذكرنا أعلاه، ضعفت الثقة العالمية في قدرة الاقتصاد الهندي على استقطاب الاستثمارات الأجنبية وذلك عكس ما حصل في الصين .
ثالثاً: بينما كان السياسيون الصينيون يحاولون معالجة بعض المشكلات والعوائق الأساسية أمام الاستثمارات، عجز السياسيون الهنود عن ذلك بسبب الصراع السياسي مما سبب تفاقم المشكلات من دون حلول مناسبة .
رابعاً: ليست كل المؤشرات لصالح الصين ومنها العامل الديموغرافي الأساسي الذي قيد الإنجاب في الصين وأبقاه حراً في الهند . توافر اليد العاملة الوطنية أساسي للحاضر وخصوصاً للمستقبل، وهذا ما تنعم به الهند وتفتقد إليه الصين أكثر فأكثر . لماذا لا تغير الصين سياستها وتحرر الإنجاب؟ هنالك خوف من أن ينعكس التغيير انفلاتاً بل انفلاشاً في الإنجاب يعيد المؤشرات الاقتصادية والحياتية والإنسانية إلى الوراء . هنالك فعلاً مأزق حقيقي!
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"