النفط والنمو العالمي

05:22 صباحا
قراءة 4 دقائق

منذ اجتماع منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك) في فيينا الذي قرر الإبقاء على سقف الإنتاج الرسمي كما هو، والضغوط تتزايد على المنظمة وتحملها مسؤولية تدهو الاقتصاد العالمي نتيجة ارتفاع أسعار النفط ولأنها لم تزد من إنتاجها لخفض الأسعار .

وهذا أمر متوقع دائماً، ليس فقط من السياسيين في الدول الصناعية المستهلكة بكثافة للطاقة، بل أيضاً من بعض من يسايرون التحليلات الغربية باعتبارها دقيقة وعلمية، إلا أن واقع أسواق الطاقة عموماً والعوامل الأخرى المؤثرة في النمو الاقتصادي العالمي، ومن ثم التقديرات المنطقية للمستقبل القريب والمتوسط لا تتفق مع هذا التوجه، وتكشف إلى حد كبير قدراً من النفاق مرده رغبة القوى الاقتصادية الكبرى للفت الانتباه عن أسباب التردي الاقتصادي الحقيقية .

قبل أيام صدر تقرير وكالة الطاقة الدولية، التي تقدم النصح في مجال الطاقة للدول الصناعية الغنية الرئيسة في العالم، محذراً من أن استمرار ارتفاع أسعار النفط سيضر بالتعافي الاقتصادي العالمي الهش في أعقاب الأزمة المالية والركود الذي ضرب الاقتصاد العالمي قبل أكثر من ثلاث سنوات .

ورفعت الوكالة تقديراتها لنمو الطلب العالمي على النفط، مشيرة إلى أن عدم زيادة إنتاج أوبك سيؤدي إلى استمرار ارتفاع الأسعار، وبالتالي الاضرار بالنمو الاقتصادي العالمي . ويركز تقرير الوكالة على أوبك، مشيراً إلى توقعات زيادة الطلب على نفطها بمقدار 400 ألف برميل يومياً وإلى تراجع طاقة الإنتاج الاحتياطية لدى دول المنظمة إلى 3 .3 مليون برميل يومياً واحتمال استمرار غياب النفط الليبي عن السوق إلى عام 2014 .

ومع التسليم بأن اجتماع أوبك مطلع يونيو/ حزيران كان يفترض أن يقر على الأقل الزيادة الفعلية في الإنتاج ويرفع سقف الإنتاج الرسمي ليوازيها (سقف الإنتاج المخفض منذ في ديسمبر/ كانون الأول 2008 هو 84 .24 مليون برميل يومياً، والإنتاج الفعلي 2 .26 مليون برميل يومياً)، إلا أن ترك الوضع على ما هو عليه ليس إلا تقديراً لكفاية العرض أمام الطلب وتفادياً لإغراق السوق بالعرض . وهنا من المهم الإشارة إلى أن السوق تكون قادرة على امتصاص الزيادة في العرض في حال نقص المخزونات التجارية، إلا أن الدول الصناعية المستهلكة راكمت مخزونات تفوق الحدود ومن ثم لن تشتري كثيراً للتخزين . أضف إلى كل هذا أن الدول المنتجة للنفط من خارج أوبك تستطيع زيادة إنتاجها في حال حاجة السوق .

يلاحظ من أرقام تقرير وكالة الطاقة الدولية أن تقديراتها لنمو الطلب العالمي متواضعة، ومن زيادة متوقعة بمقدار 700 ألف برميل يومياً (وهي أقل من نصف معدل النمو في سنوات الازدهار الاقتصادي السابقة) خصت نمو الطلب على نفط أوبك بأكثر من نصف الزيادة العالمية . ونذكر هنا أن دول أوبك لا تنتج أكثر من 40 في المئة من النفط العالمي، إلى جانب أنها في النهاية ليست منظمة لتحديد الأسعار وإنما للتنسيق لضمان توازن السوق بين العرض والطب . أما بالنسبة لنفط ليبيا والمقدر بأقل من 5 .1 برميل يومياً، فقد تعهدت السعودية بتعويضه ونفذت تعهدها بالفعل وربما هذا ما قلل طاقة الإنتاج الاحتياطية لدول أوبك من أكثر من 5 .4 مليون برميل يومياً إلى الرقم الذي ذكره تقريره الوكالة . ويسوق محللو الوكالة هنا حجة أن النفط السعودي عالي الكبريت وليس بجودة الخام الليبي، إلا أن هذه في النهاية مشكلة مصافي الدول المستهلكة وليست مشكلة المنتجين .

أما بالنسبة للأسعار، فهي وإن كانت عالية فإنها لا تتناسب ومعدلات التضخم الحاصل في كل الاقتصادات المتقدمة والصاعدة، ولا تزال حتى بوصولها إلى أكثر من 120 دولاراً للبرميل أقل مما وصلت إليه في صيف 2008 عندما وصل سعر البرميل إلى 147 دولاراً . ولا أتصور أن هناك سلعة أخرى تراجع سعرها من 2008 إلى الآن مثل النفط . ورغم أهمية النفط كمصدر للطاقة في تحديد أسعار السلع الأخرى وتأثيره في النشاط الاقتصادي عموماً فإنه ليس العامل الرئيسي الذي يمكن أن يحرك النمو الاقتصادي ارتفاعاً وهبوطاً كما يصور البعض .

ونأتي إلى الطلب على النفط، ونأخذ في الاعتبار الحقائق الماثلة أمامنا من الأرقام الرسمية للدول المتقدمة والصاعدة . إذ يشهد التعافي الاقتصادي تراجعاً ملحوظاً، وتتباطأ الاقتصادات الصاعدة مثل الصين والهند، ناهيك عن أن الاقتصادات التقليدية المتقدمة مثل الولايات المتحدة وأوروبا الغربية تشهد تباطؤاً يقترب من الركود . ويعني هذا ببساطة أن طلب تلك الاقتصادات على الطاقة أخذ في التراجع، ومن ثم يكون المنطقي ألا تزيد العرض مع عدم الإخلال بتوازن السوق . أما الزيادة في الأسعار، فالكل يعرف وخاصة في الاقتصادات المتقدمة أن قدراً كبيراً منها يعود إلى المضاربات التي تقوم بها الصناديق التي هي قلب القطاع المالي المسؤول الأول عن الأزمة العالمية التي جرت العالم إلى الركود . والواضح أن القطاع المالي، الذي استعصى على الإصلاح رغم كل وعود السياسيين، لا يزال صاحب الكلمة العليا في رسم السياسات الاقتصادية في الاقتصادات الرئيسة . ويأبى القطاع إلا أن يظل على ممارساته القديمة التي كانت السبب في كارثة، ويكاد يكون العالم يغذي كارثة أخرى على وشك الوقوع . وبغض النظر عن عوامل تباطؤ الانتعاش التي ربما تحتاج إلى مجال آخر نعود إلى عامل النفط . فالقطاع المالي يضارب ويحقق أرباحاً تسند وضعه وتساعده على مقاومة الإصلاح وفي الوقت نفسه يريد من الجميع مساعدته على ذلك ولو على حساب خرق القواعد الاقتصادية الأساسية المنطقية .

من هنا، في تصوري، استمرار الضغوط على أوبك وغيرها وصدور التقارير والتحليلات التي يستخلص منها السياسيون تصريحات رنانة قوية لا تعكس الواقع كما تظهره الأرقام الحقيقية . والمشكلة أن البعض منا ينساق وراء تلك التصريحات الرنانة وربما حتى لأسباب سياسية وينضم لجوقة الضغط وتحميل منظمة مثل أوبك أو دول منتجة كبرى أكثر مما تتحمل الأمور .

خبير اقتصادي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"