تشابك الاقتصاد الوهمي بالحقيقي (1/2)

02:41 صباحا
قراءة 4 دقائق

لم يعد حجم الخسائر المالية والاقتصادية رقماً كبيراً أو صغيراً، إنما بات طعماً لاصطياد الرعب والقلق العام، ولعلّ تقصّد هذا الامر، لإضفاء صبغة عجائبية، على المنقذين الجدد حين ينجحون بإعادة الأمور إلى نصابها. فالارقام المتداولة بين الخبراء الغاطسين في الأزمة تتراوح بين 50 تريليون دولار أمريكي و450 تريليوناً، بحسب وظيفة كل منهم في الشركات والبنوك والاجهزة الحكومية.

ولا ريب أن كتلة مالية ضخمة تبخّرت في الأزمة، وخسرتها شركات الاستثمار والبنوك والتأمين التي أفلست. لكن هذا الافلاس لا معنى له بحد ذاته، فهي اساساً أموال قرصنة، لا أصول لها، كافية، أتاحت لها سياسة أكدت السرقة القانونية، عبر تشريعات حرية الرساميل، وحمتها عبر السماح لها بتحويل المشتقات، وما زالت تحميها، بإفلاسها، بالتعويض على الشركات والبنوك بدل محاسبة المسؤولين عن الفساد والأزمة.

بلغ حجم الأسهم الدولية في نهاية عام 2007 حوالي 9.60 تريليون دولار، بينما بلغ حجم سوق المشتقات المالية 480 تريليوناً، والفارق بين الرقمين، معظمه ورق لا أصول له، ربحته الشركات والبنوك المفلسة، وللمقارنة بين حجم الاقتصاد الحقيقي المفترض، وحجم الاقتصاد الوهمي، الذي كان السنة الماضية حقيقة، ينبغي وزنهما بحجم الناتج المحلي الأمريكي وهو 7.13 تريليون دولار، وحجم الناتج المحلي الأوروبي وهو 14 تريليون دولار أما حجم الناتج العالمي فلا يتجاوز 60 تريليون دولار، وإذا أضفنا اليها حجم السندات السيادية في العالم وهي 45 تريليون دولار، منها 25 تريليوناً في الولايات المتحدة، تظل الهوّة شاسعة بين الحجم الحقيقي المفترض (105 تريليونات) وحجم سوق المشتقات الوهمية (480 تريليوناً)، وتبقى أرباح الفساد أكثر من خيالية، بل تفوق الخيال.

إذاً، لماذا كل هذا التهويل بالرعب، والسبب بسيط مفاده أن السياسة الاقتصادية، التي أقرّتها الحكومات الصناعية أولاً، ذهبت بعيداً في تشابك الاقتصاد الوهمي، بالاقتصاد الحقيقي المفترض، وعولمته على اساس حرية الاسواق والرساميل، وهو خيار ارادي وليس قدراً كما يشاع، بل هو خيار ارادي لصالح فئات قليلة العدد، عظيمة التأثير والنفوذ، وهي غالباً متشابكة المصالح والنفوذ في السلطة والاقتصاد والمعتقدات الدينية والنيوليبرالية. وأفضت هذه الآليات إلى انفجار الأزمة، إنما أدّت ايضاً إلى ترابط الحلول وتشابكها. وبمعنى آخر، تضع الشركات المعرّضة للافلاس والبنوك وشركات التأمين الحكومات أمام خيار من اثنين:

- إما التراجع جذرياً عن تشريع ادارة الكازينو ودوران دواليب المقامرة، وهذا يفترض تفكيك النظم والتشريعات النيوليبرالية، والعودة إلى الوراء بإعاقة حرية الرساميل لصالح الاقتصاد الحقيقي والقطاع الخاص الصغير ودور الدولة.

- وإما أن تعمل الخكومات على إعادة تسييل الشركات المفلسة والعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه فيها، خوف اندلاع الحريق وتعميمه في البنوك التجارية العادية والاقتصاد الحقيقي والقطاعات الانتاجية. وبهذا الصدد هوّلت الشركات المعرّضة للافلاس، من خوفها على الاقتصاد الحقيقي أكثر من خوفها على نفسها، وضخّم خبراؤها الارقام والتداعيات، لأنها تدرك أن هذا التهويل يدفع الحكومات لانقاذها بضغط شعبي وقلق عام، مثل بيت يتعرّض للحريق، تزداد حظوظ نجاته كلما هدّد الحريق بالتوسّع. وهذا ما وقع عليه المنقذون الجدد، وهم من المدرسة النيوليبرالية نفسها.

والحال، وبينما يشير المسؤولون السياسيون في الدول الصناعية وخبراء البنوك المركزية والمؤسسات الدولية، إلى مسؤولية الشركات وبنوك الاستثمار وشركات التأمين، عن الجشع اللاأخلاقي، فإنهم يتغافلون عمداً عن مسؤوليتهم السياسية والاخلاقية، في دفع الفاسدين إلى الفساد. وهم يتغافلون لاضفاء صبغة عجائبية على ما يقومون به، في حين أنه استمرار قديم جديد، من شأنه اعادة الطمأنينة لدافعي الضرائب وأصحاب الثروة الحقيقية، ثم العود على بدء. ويبدو أن العبارات التي يشيعها المسؤولون السياسيون، توحي أن تغييراً نحو الكينزية، يسير ببطء، لكن النهج الاقتصادي الانقاذي، يكذب، ما يقولون. فالقول هو في اتجاه اعادة دور الدولة أو المراقبة ووضع الضوابط والشفافية، وذهب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى القول بإعادة تأسيس الرأسمالية... لكن الواقع المنهجي الانقاذي هو بعكس ذلك، بل هو في الاتجاه نفسه، الذي أدّى إلى انفجار الأزمة الراهنة. فالحكومات والبنوك المركزية والمؤسسات الدولية، اتخذت سابقاً إجراءات ما يسمى بالشفافية والضوابط والمراقبة، وفوق ذلك، قامت الدولة بدور، إنما لصالح حرية الرساميل، وهي ما زالت مستمرة بهذا الدور وإن بكلام مغاير.

ولنبدأ من النقطة الاخيرة، وهي النقطة التي يثار حولها غبار العودة إلى تدخل الدولة وتأميم الشركات بل اشتراكية الاغنياء، وكأنهم يتلاعبون بأعصاب البسطاء لإعادة الثقة. لكن الدولة تلجأ عادة إلى تأميم الشركات والقطاعات المقررة للارباح، أو لأسباب استراتيجية وذلك في سبيل تحصين دور الدولة واعادة توزيع الثروة العامة وتحقيق ما أمكن من عدالة التوزيع. أما تأميم الشركات والقطاعات الفاسدة، فهو منحى بالاتجاه المعاكس للتأميم. فهو تعويض على الفاسدين، من الثروة العامة المتراكمة في صناديق التقاعد والضمان الاجتماعي والصحي، أو من الثروة التي ستتراكم في سندات الخزينة والصناديق السيادية ومداخيل الانتاج.

أما حكاية الشفافية والضوابط والمراقبة، فتلك حكاية مضحكة أو مبكية. فالسؤال الجدّي هو من يراقب ويضبط ويقيم الشفافية وكيف، هل بمراقبة الرأسمال على الرأسمال أم بشفافية دواوين المحاسبة التي وافقت حتى العام الماضي على كل ميزانيات الديون الملوّنة، أم في الضوابط التي وضعتها القوانين والتشريعات لحماية حرية الرأسمال واخضاعه فقط لضوابط الربح الاقصى؟

فكل هذه الآليات لم تتغير بل على العكس، تزداد اليوم رسوخاً ويعيد المنقذون الجدد اليها الصافية. فالصادقون كانوا يعرفون أن الأزمة مقبلة على انفجار ومنهم من انشق على المؤسسات الحكومية والدولية (جوزيف ستيغلتز على سبيل المثال) والكاذبون ما زالوا يكذبون.

* باحث في البدائل

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"