وصفة الركود البريطانية

04:48 صباحا
قراءة 4 دقائق

لا حديث في بريطانيا الآن. ليس فقط في أوساط الاقتصاديين والمعنيين بالمال والأعمال وإنما بين كافة قطاعات الشعب. يفوق الحديث عن أسعار الفائدة . فقد حافظ بنك إنجلترا (المركزي البريطاني) على الأسعار عند أدنى مستوياتها (5 .0 في المئة) لنحو عامين إلى الآن. إلا أنه منذ عدة أشهر والتوقعات والتحليلات تشير إلى أن البنك سيكون مضطراً إلى البدء في رفع سعر الفائدة. ربما من أول مايو/ أيار. في محاولة للحد من ارتفاع معدل التضخم . وساعد على تعزيز تلك التوقعات ما قام به البنك المركزي الأوروبي. المسؤول عن السياسة النقدية لدول منطقة اليورو ال.17 برفع سعر الفائدة في إبريل/ نيسان ربع نقط مئوية إلى 25 .1 في المئة . ومع أن أحدث الأرقام الرسمية البريطانية أشارت إلى تراجع التضخم بشكل مفاجئ في مارس/ آذار إلى 4 في المئة. من 4 .4 في المئة في فبراير/ شباط. إلا أن التضخم يظل ضعف المستهدف رسمياً عند 2 في المئة .

ويجد بنك إنجلترا نفسه في مأزق حقيقي. إذ إن قراره بشأن أسعار الفائدة وإن كان هدفه الأساسي هو ضبط التضخم. إلا أنه لا يمكنه إغفال تأثيره في الاقتصاد الأوسع . صحيح أن التضخم لايزال مرتفعاً. خاصة إذا أخذنا مؤشر أسعار التجزئة (وليس مؤشر أسعار المستهلكين الذي تراجع إلى 4 في المئة). فسنجد أنه لايزال عند 3 .5 في المئة . لكن من شأن رفع سعر الفائدة أن يرتفع مؤشر أسعار التجزئة الذي يضم مدفوعات الفوائد على القروض العقارية إلى ما يصل إلى 6 في المئة . ومن شأن ذلك أن يضغط أكثر على الإنفاق الاستهلاكي المتدهور أصلاً بما يبقي على معدلات النمو الاقتصادي في الحضيض .

في الوقت نفسه. لا يملك البنك إلا أن يعمل على الحد من التضخم وينظر إلى بعض المؤشرات التي ربما تبرر قراره البدء في رفع سعر الفائدة . ومنها أن نسبة البطالة هبطت في الربع الأول من العام إلى 8 .7 في المئة. منخفضة 1 .0 في المئة عن الربع الأخير من العام الماضي . وإذا كان معدل النمو الاقتصادي تراجع بشدة في الأشهر الأخيرة. فإن الحكومة الائتلافية بين حزبي المحافظين والليبراليين الديمقراطيين تصر على أن سياساتها التقشفية كفيلة بتحفيز النمو .

المشكلة في بريطانيا ليست مشكلة السياسة النقدية ولا بنك إنجلترا وحده. ولكن مجمل السياسات الاقتصادية التي بدأتها حكومة الائتلاف بقيادة حزب المحافظين منذ الأسبوع الأول لتوليها السلطة في مايو/ أيار .2010 وفيما يبدو الآن واضحاً أنه لأسباب إيديولوجية أكثر منها اقتصادية. قررت الحكومة خفض الإنفاق العام بشدة لحل مشكلة الدين الحكومي. والهدف بالأساس الحفاظ على التصنيف الائتماني للاقتصاد البريطاني لعدم تعرض الأعمال الخاصة والقطاع المالي منها على وجه الخصوص . ونتيجة تلك التخفيضات يجري تسريح مئات الآلاف من العاملين وخفض الإنفاق على الخدمات الأساسية وبداية خصخصة لقطاعات تمس المواطنين مباشرة .

ولم تظهر نتائج تلك السياسات كاملة بعد. ويستبعد كثير من الاقتصاديين أن تكون الفائدة من ورائها لخفض الدين كبيرة مقابل تأثيرها السلبي في انهيار الإنفاق الاستهلاكي الذي يشكل أكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي . ولهذا السبب تجد الآن كثيراً من مراكز الضغط الاقتصادي تطالب بنك إنجلترا بالتروي في رفع أسعار الفائدة كي لا يحد أكثر من الإنفاق الاستهلاكي. والسبب أن الحكومة تعول على الشركات والقطاع الخاص في تعويض الإنفاق لتنشيط الاقتصاد . لكن التجربة التاريخية لم تثبت أبداً أن القطاع الخاص يعوض الإنفاق الحكومي في أي ركود أو أنه يخلق وظائف بديلة للقطاع العام كما تروج الحكومة .

أما مشكلة الدين العام التي تسعى الحكومة إلى التخويف منها. ففيها في الواقع تلاعب شديد لأسباب إيديولوجية أيضاً . فالمعروف أن حزب المحافظين هو حزب الأعمال الخاصة والمستثمرين الذين لا يطيقون أي مسؤولية اجتماعية للحكومات أو محاولات فرض ضرائب أو رسوم على أعمالهم للإسهام في الإنفاق على الخدمات العامة . ولننظر إلى ديون القطاع العام والحكومي في بريطانيا ونسبتها من الناتج المحلي الإجمالي مقابل الديون التي ترقد عليها الأعمال الخاصة. ولاسيما القطاع المالي . يقدر مكتب الإحصاء الوطني حجم ديون القطاع العام عند 5 .875 مليار جنيه إسترليني. أي بنسبة 58 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. إلا أن هذه الأرقام تستبعد تماماً القطاع المالي البريطاني كله . وبإضافة القطاع المالي. يقدر مكتب الإحصاء الوطني حجم الدين الوطني العام عند 2 تريليون و251 مليار جنيه إسترليني. أي بنسبة 1 .149 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي .

ومقابل هذه الأرقام الرسمية. أصدر أحد المراكز الاقتصادية اليمينية (أي القريبة من المحافظين). أرقاماً مجمعة للدين العام تشير في الواقع إلى أن ديون القطاع الخاص أكبر بكثير من التقدير الرسمي . فقدر مركز دراسات السياسة حجم الدين الوطني العام عند 3 تريليونات و617 مليار جنيه إسترليني . ويعني ذلك أن نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي تصل إلى 240 في المئة . وإذا كان الهدف هو الاستمرار في تخويف الناس من كارثة الديون البريطانية للقبول بالسياسات الاقتصادية التقشفية. فإن ذلك من شأنه أن يأتي بنتائج عكسية. لأنه يعزز القول إن الحكومة تعمل لمصلحة فئة محددة وليس المجتمع والاقتصاد الوطني ككل .

وبغض النظر عن تلك الخلافات الإيديولوجية. إلا أن الأشهر الستة المقبلة ستشهد بدايات النتائج الواضحة لسياسات التقشف الحكومي مع ارتفاع معدلات البطالة واستمرار القيود على ارتفاع الأجور . وإذا أضفنا إلى ذلك ارتفاع أسعار الفائدة مع استمرار ارتفاع الأسعار وبالتالي انهيار الإنفاق الاستهلاكي. فليست هناك وصفة اقتصادية تفوق هذا لتحقيق الكساد التام . ومن غير الواضح حتى الآن أن الحكومة مستعدة لإعادة التفكير في سياساتها. بل إنها تسرع فيها بكل قوة وكأنها تدرك أنه لن يعاد انتخابها في 2015 وبالتالي عليها أن تحقق كل مصالح تيارها (رجال المال والأعمال المعنيين بالربح دون مسؤولية اجتماعية) في نصف مدة حكمها الأولى . وهكذا تبدو الوصفة الكارثية الخيار الأوحد. عمداً وليس عن غير قصد .

* خبير اقتصادي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"