ماذا لو “أفلست” أمريكا؟

02:52 صباحا
قراءة 4 دقائق

ربما يبدو العنوان للوهلة الأولى سؤالاً افتراضياً تعتبر مناقشته من باب الفلسفة، ذلك لو أن المقصود أن الولايات المتحدة الأمريكية لم يعد لديها مال ولا أصول، إنما المقصود بالإفلاس هنا هو التخلف عن سداد الدين في موعده أي Default بالإنجليزية . وأصبح ذلك الأمر محتملاً الآن في ضوء أرقام الاقتصاد الكلي الأمريكي وتوقعات النمو، إلى جانب الجدل الدائر بين طرفي السلطة هناك من جمهوريين وديمقراطيين بشأن مسألة الدين وخفض الإنفاق . ومنذ عدلت مؤسسة التصنيف الائتماني ستاندرد آند بورز تقييمها لديون الولايات المتحدة في إبريل/ نيسان الماضي والتحليلات والتعليقات تتوالى تحت عنوان ماذا لو تخلفت أمريكا عن سداد ديونها؟ .

وكانت ستاندرد آند بورز خفضت توقعاتها لتصنيف الدين الأمريكي من مستقر إلى سلبي ما يزيد من احتمال خفض التصنيف الائتماني في غضون العامين المقبلين . وردت وزارة الخزانة الأمريكية بالقول إن ستاندرد آند بورز قللت من قدرة الحكومة الأمريكية على التصدي لمشكلة العجز . والمقصود هنا أن الولايات المتحدة ليست اليونان ولا إيرلندا ولا البرتغال . كما أنها تختلف أيضاً عن إيطاليا وإسبانيا المهددتين بالإفلاس أي التخلف عن سداد الديون في حال استمرار أزمة الدين العام في منطقة اليورو .

وهذا صحيح إلى حد ما، لكنه لا يمنع احتمال أن تتعثر أمريكا فعلاً ولا تتمكن من سداد أقساط ديونها . وإذا كانت أزمة الديون في أوروبا أثرت سلباً في الأسواق العالمية وفي فرص التعافي الاقتصادي بعد الركود الناجم عن الأزمة المالية، فإن تعثر أمريكا يمكن أن يقود العالم إلى كساد عميق يتجاوز الكساد الكبير في ثلاثينات القرن الماضي . ومع أن مؤسسات التصنيف الائتماني أخذت في الاعتبار الخلاف السياسي في واشنطن قبل الانتخابات الرئاسية بشأن رفع سقف الاقتراض وهي تعيد النظر في تصنيف الدين الأمريكي، إلا أن هناك عوامل بنيوية تتعلق بالاقتصاد الأمريكي تدعو لتدبر احتمال التعثر . فالتعافي في أمريكا لا يسير بالقدر المتوقع لتحسن الاقتصاد ارتفاع البطالة وتدهور السوق العقاري مثال على ذلك كما أن الاقتصادات الصاعدة بدأت في التباطؤ لتهدئة غليانها في محيط اقتصاد عالمي شبه راكد . ولم تفلح العلاجات السريعة الخاطئة في الواقع لأنها أرادت التغطية على علة القطاع المالي وليس استئصالها في استعادة قوة الدفع لتنشيط الاقتصاد . وينعكس ذلك بالأرقام في تضاعف حجم الاستدانة اليومية لواشنطن في السنوات القليلة الأخيرة منذ الأزمة المالية لتصل إلى 4 مليارات دولار يومياً . وهكذا وصل الدين الأمريكي إلى سقفه المحدد بموازاة حجم الاقتصاد وهو 3 .14 تريليون دولار .

صحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية، التي تتبنى النموذج الأمريكي تماماً، حذرت قبل أيام من أن تعثر الولايات المتحدة سيؤدي إلى خسارة سوق السندات 100 مليار دولار على الأقل . والقدر الأكبر من دين الولايات المتحدة عبارة عن سندات خزينة، أخذت في التراجع في الآونة الأخيرة رغم الإقبال عليها في ظل أزمة الدين الأوروبية . ويملك العالم سندات خزينة أمريكية بقيمة 10 تريليونات دولار على الأقل، في حال إفلاس أمريكا ستصبح في الأغلب بلا قيمة .

ومن بين أكثر من 4 تريليونات دولار صكوك ضمان دين أمريكية مملوكة لغير أمريكيين، تملك الصين واليابان القدر الأكبر منها، بقيمة 8 .906 و4 .877 مليار دولار على التوالي . بينما تملك الدول المصدرة للنفط ما قيمته 9 .213 مليار دولار من تلك الصكوك، وتملك دولة نامية مثل مصر مثلاً 9 .34 مليار دولار من صكوك ضمان الدين الأمريكي . هل يمكن إذاً تخيل حجم الكارثة التي ستصيب دول العالم كافة في حالة تخلف الولايات المتحدة عن سداد ديونها؟ رد الفعل السريع هو انهيار سوق السندات بما له من تبعات سلبية على الأسواق المالية عموماً ومؤشرات البورصات بالتحديد في أرجاء المعمورة كافة . ويستتبع ذلك بالضرورة انهيار للأسعار في أسواق السلع والخدمات وانكماش هائل للاستثمار وشبه تجميد لحركة رؤوس الأموال . وسيكون القطاع المالي والمصرفي أكبر المتضررين، وسنشهد انهيار بنوك وصناديق استثمار كثيرة . وسيدخل الاقتصاد العالمي في مرحلة كساد عميق .

تقول الحكمة التقليدية إن أحداً في العالم لن يسمح بأن تفلس أمريكا، صاحبة أكبر اقتصاد في العالم، لأن الكارثة نتيجة تعثرها أكبر من أن تحتمل . وكان هذا الرهان الأمريكي دائماً في الاستمرار بالإنفاق أكثر مما تملك اعتماداً على الاقتراض اليومي من العالم . إلا أن استمرار ذلك المنحى أمر غير ممكن، خاصة إذا بدا اقتصاد الدولة الكبرى غير قادر على النمو والتوسع بما يبرر تلك الاستدانة اليومية الهائلة . ولن يكون كافياً وقتها أن الدولار الأمريكي، عملة الاحتياط الدولية، يمكن أن يكون سند الاقتراض الرئيسي لمنع الإفلاس .

وربما يكون الحل هو إعادة هيكلة الدين الأمريكي، بمعنى الاقتراض مجدداً بشكل مباشر أو غير مباشر مقابل خطط إعادة هيكلة أمريكية تلتزم خفض الإنفاق العام والتقشف في مجالات محددة . لكن هذا التقشف سيعني أيضاً انكماشاً اقتصادياً لا يريده الدائنون من الخارج لأنه يضر بنموهم الاقتصادي . ربما يكون من المفيد أن تفلس أمريكا، فهذا يعني إلغاء قدر كبير من فقاعة المال الوهمي في العالم (عدة تريليونات من الدولارات، وانهيار مؤسسات مالية مريضة هي سبب العلة الأخيرة) . صحيح أن ذلك أمر مؤلم اقتصادياً، لكنه على المدى البعيد سيسمح بتطور اقتصادي جديد ربما يخلص العالم من أمراض خبيثة استفحلت في فترة الرأسمالية المالية .

* خبير اقتصادي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"