سوق النفط تعود للأصول

00:39 صباحا
قراءة 4 دقائق

حين أعلنت وكالة الطاقة الدولية قبل أسابيع أنها ستفرج عن 60 مليون برميل نفط من المخزون الاستراتيجي لدى الدول الصناعية عقب قرار منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك) الإبقاء على سقف الإنتاج، صدرت أصوات خافتة تحذر من هذا الإجراء وتعدّه سياسياً ولا علاقة له بأساسيات السوق من عرض وطلب . إلا أن الصوت العالي في الدول المستهلكة، الذي يصرخ دائماً بأن أوبك تريد تعطيش السوق النفطية لرفع الأسعار، كانت له الغلبة وضاعت تلك الأصوات العاقلة وسط الضجيج الإعلامي .

ولأن بعض الدول المنتجة تخشى التبعات السياسية لعدم ممالأة الساسة في الدول التي تعمل لمصلحتها وكالة الطاقة الدولية وفي مقدمتها الولايات المتحدة فقد تم التغاضي عن الأصول التي كانت واضحة بالأرقام والتوقعات المنطقية: السوق ليست بحاجة إلى مزيد من العرض لأن المعروض من الإنتاج النفطي يغطي الطلب وزيادة، وليست هناك توقعات بارتفاع الطلب في المدى القصير .

فرضت تلك الأصول نفسها في الآونة الأخيرة، ليس مع تراجع أسعار النفط وهبوط سعر برميل الخام الأمريكي الخفيف دون مستوى 95 دولاراً فحسب، بل مع إقرار وكالة الطاقة الدولية ذاتها بضعف الطلب . فبعدما كانت الوكالة تبرر طرح المخزون في السوق بارتفاع الطلب هذا العام، عادت وقالت إن الطلب سيرتفع العام المقبل، طبعاً دون أن تقر بالمغالاة في توقعاتها لهذا العام لتتجاوز توقعات (أوبك) لنمو الطلب بكثير . وقدرت الوكالة نمو الطلب حتى نهاية عام 2012 بزيادة أكثر من مليون برميل يومياً، في محاولة لتبرير قرار طرح كميات من المخزون . في المقابل ظلت (أوبك) عند توقعاتها المتحفظة لنمو الطلب، وجاءت أرقامها في الواقع متسقة مع أساسيات السوق والتقديرات المنطقية لنمو الاقتصاد العالمي .

ولأن الأصول المنطقية لسوق النفط واضحة الآن، فالعرض يفوق الطلب، والمصافي في الدول المستهلكة ترفض عروض البيع من دول منتجة زادت كميات التصدير، تقول وكالة الطاقة الدولية إن الكميات المفرج عنها من المخزون الاستراتيجي ستكون أقل مما أعلنته في نهاية يونيو/حزيران الماضي . وهكذا بدأت الوكالة إلى حد ما طبعاً تعود إلى الأصول بعيداً عن السياسة واقتراباً من أساسيات السوق من عرض وطلب . إلا أن ذلك لا يعني أن أوبك ستظل تتعرض لضغوط سياسية وإعلامية، خاصة أن التراجع في أسعار الخام لم ينعكس على أسعار المشتقات التي تباع للمستهلكين في الدول المتقدمة . فما زال سعر لتر البنزين في لندن وغيرها من عواصم الاقتصادات الكبرى مرتفعاً، وأسعار الكهرباء وزيت التدفئة ارتفعت مجدداً للمستهلكين . لكن أحداً لا يذكر عدة حقائق تتعلق بأصول السوق مثل تراجع إنتاج المصافي في الدول الغربية وزيادة الرسوم الحكومية على أسعار المشتقات . ذلك أن مثل هذه الحقائق تزعج السياسيين وتجعلهم هدفاً لغضب شعوبهم المستهلكة، فالأسهل إذاً، تحويل الغضب إلى عامل خارجي مثل (أوبك) ودول الخليج النفطية .

أما مسألة طرح جزء من المخزون الاستراتيجي لغير ما هو مخصص له فهو بالأساس للطوارئ، ولم تكن هناك طوارئ في سوق الطاقة تستدعي استخدامه فربما كان تفسيرها بسيطاً . فأصول السوق، مرة أخرى، توضح أن المخزونات النفطية لدى الدول الصناعية المستهلكة وصلت إلى مستويات غير مسبوقة . وربما أصبح من الصعب الحفاظ على مستوى تلك المخزونات دون عمليات شراء تدير عجلة مهمة في سوق الطاقة، فكان قرار الإفراج عن جزء منها لتعزيز الطلب لبناء المخونات في ظل انهيار الطلب الاستهلاكي التجاري . ولا غرو حينئذٍ من القيام بذلك بدعاية إعلامية/سياسية تظهر السياسيين حريصين على المستهلكين وتشيطن (أوبك) والدول المصدرة للنفط .

أما أساسيات السوق، فالمعروف تقليدياً أن الطلب على النفط يقل في الربعين الأخيرين من العام مع دخول فصل الصيف نصف الكرة الشمالي . أضف إلى التراجع الموسمي في الطلب، أن كل الأرقام الرسمية الصادة من الدول المستهلكة الرئيسة تشير إلى تباطؤ، إن لم يكن تردي، النمو الاقتصادي فيها . وإذا كانت أمريكا وأوروبا تعاني مشكلات مديونية وبطالة وخلافه تجعل التعافي الاقتصادي غير متوقع في المدى القريب، فإن الرهان على الاقتصادات الصاعدة ليس مثيراً للتفاؤل . فاقتصاد الصين، أكبر مساهم في نمو الطلب على الطاقة في العالم، يتباطأ أيضاً إن كان بوتيرة أقل مما هو الحال في أوروبا وأمريكا . كذلك الحال بالنسبة للاقتصاد الهندي، أما اليابان فأمامها فترة طويلة قبل أن تعود إلى طريق النمو إثر كارثة الفيضان والتسونامي، فضلاً عن أن نمو الاقتصاد الياباني لم يكن مشجعاً اصلاً قبل كارثة الفيضان .

مع ذلك، تفترض وكالة الطاقة الدولية نمو الطلب على النفط بما يقارب مليون ونصف الميلون برميل يومياً، وإن كان ذلك أعلى بقدر ليس بالكبير عن تقديرات (أوبك) لنمو الطلب إلا أنه لا يمثل ثانية أي خلل متوقع في أساسيات السوق . فالعرض لايزال يتجاوز الطلب، وأي زيادة في المعروض ستؤدي إلى تخمة غير مبررة . وإذا كانت وكالة الطاقة الدولية تشير في تقريرها الشهري الأخير إلى أن الطلب على نفط أوبك في النصف الثاني من العام سيبلغ في المتوسط 31 مليون برميل يومياً، فإن أوبك تنتج حالياً بمستوى يزيد بمليوني برميل يومياً عن الطلب المتوقع . وما لم تحدث أي تغيرات طارئة لن تكون أوبك بحاجة إلى زيادة إنتاجها أكثر مما هو عليه الآن حتى نهاية العام .

* خبير اقتصادي .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"