“الاتحاد المصرفي” وثبة نوعية على طريق الاندماج الأوروبي

04:10 صباحا
قراءة 3 دقائق

بمبادرة من الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، خلال القمة الأوروبية، في يونيو/حزيران ،2012 تقرر إطلاق مسار التفاوض على اتحاد مصرفي لم تتحمس له المستشارة الالمانية أنغيلا ميركل خوفاً من تأثيراته السلبية في الانتخابات في عام 2013 . وبعد مفاوضات مضنية دامت أكثر من عام ونصف، نجح وزراء مالية الاتحاد الأوروبي الثمانية والعشرون، في 18 كانون الاول/ديسمبر المنصرم، في التوقيع على اتفاق "الاتحاد المصرفي"، وهو تاريخي بمعنى الكلمة لما يعطيه من حياة جديدة للاتحاد . انه الخطوة الاهم في الاندماج المالي الأوروبي منذ ولادة العملة المشتركة اليورو .
ويهدف هذا الاتحاد المصرفي إلى الامساك بالوضع المالي الأوروبي بعد عقود ثلاثة من التخبط أوصلت أوروبا إلى مأزق حقيقي، ويقوم على دعامات ثلاث: الرقابة الأوروبية المندمجة وميكانيزمات التصدي للأزمات وضمان الودائع . وهذه الدعائم تقود إلى ترتيب الوضع المالي وطي صفحة اللااستقرار المالي بشكل نهائي، والذي قاد إلى أزمة عام 2008 والتي ما تزال بعض الدول الأوروبية تتخبط في حبائلها إلى اليوم .
لقد تم تكليف المصرف المركزي الأوروبي، وبطريقة حصرية، بمهمة الرقابة والاشراف على القطاع المالي الذي لم يعد يقبع في الاطار الوطني فقط . وعليه من الآن وصاعداً إدارة إفلاس أو إعادة إنعاش المصارف التي تعيش وضعاً مالياً صعباً . وبذلك لم تعد الحكومات الوطنية مجبرة على بذل جهود ضخمة تؤذي ماليتها العامة بهدف إنقاذ مصرف أو مؤسسة مالية ضخمة يهدد إفلاسها بزعزعة الاستقرار المالي للبلد .
وخصصت منطقة اليورو صندوقاً يضم ستين مليار يورو تأخذها من المصارف الوطنية كنوع من التأمين بغية التحرك السريع لإنقاذ أي مؤسسة مالية يتهددها الافلاس . وهكذا لم يعد على المواطنين والمودعين تحمل أعباء إنقاذ المصارف من الهلاك . لقد بات على المصارف إنقاذ المصارف، ما يخلق مصلحة مشتركة في ما بينها من أجل حسن عمل وصحة القطاع المصرفي برمته . لقد كان المواطن هو الذي يدفع ثمن أخطاء المصرف إذا خسر . وكان المصرف يحقق الارباح لنفسه دون تحمل تبعات أخطائه إذا خسر . وجاء الاتحاد المصرفي ليحمي المواطنين المودعين ويحمّل المصارف وأصحاب أسهمها تكاليف ضمانة حسن عملها واستمرارها، وذلك بشكل تضامني تكافلي . وبذلك تؤكد منطقة اليورو إرادتها بالعمل المشترك في مواجهة المخاطر المشتركة . لقد رسمت الأزمة المالية، منذ عام ،2008 حدوداً جديدة داخل منطقة اليورو تمنع أعضاءها من الاستفادة بطريقة عادلة من حسنات الانتماء إلى العملة المشتركة . لذلك يريد الاتحاد المصرفي إزالة هذه الحدود الجديدة وتأمين ظروف جديدة لنمو اقتصادي متجدد لأعضائه .
هذا الاتحاد المصرفي كان ضرورياً لاستكمال الاتحاد الاقتصادي والنقدي، وشكّل مناسبة جديدة للتذكير بأهمية الدور الفرنسي-الألماني محركاً لأوروبا . ففرنسا كانت وراء الفكرة والتي ما كانت لتبصر النور لولا موافقة ألمانيا ولو بعد جهود تفاوضية مضنية بين البلدين .
كيف يعمل الاتفاق بالضبط؟ مصارف منطقة اليورو التي تعاني من صعوبات خطرة (وتلك القابعة خارج هذه المنطقة وترغب في الانضمام إلى الاتفاق) يمكن انقاذها من خلال تدخل صندوق الانقاذ الذي يقدم لها قروضاً سريعة بل فورية . وهذا الصندوق تغذيه كل دول منطقة اليورو، من خلال مصارفها، الأمر الذي يخفف العبء المالي عن الدولة التي يقبع فيها المصرف الذي يعاني من أزمة . هذا التقاسم للاعباء يقابله رقابة ملائمة . فإذا كانت المصارف تملك الحق بطلب المساعدة من صندوق منطقة اليورو فإنها، في المقابل، مضطرة للخضوع لرقابة إدارة هذا الصندوق والمتمثلة بالمصرف المركزي الأوروبي .
هذا الاتحاد المصرفي يقطع الصلات ما بين الازمات المصرفية والديون السيادية . انه يمنع ظاهرة العدوى، بمعنى أن المصارف التي كانت تدار بشكل سيىء، في أثينا أو مدريد أو دبلن أو قبرص، والتي دفعت الدول التي حاولت انقاذها إلى حافة الافلاس، انسحبت مفاعيلها السلبية على كل منطقة اليورو . رقابة المصرف المركزي والتي تتعلق في الحقيقة بثلاثمئة مؤسسة مالية كبيرة عابرة للحدود نصفها تقريباً يعاني من مشكلات تمنع مثل هذه الادارة السيئة . وصندوق الانقاذ يتدخل في حال خرجت الامور عن السيطرة فينقذ المؤسسة ويحمي الدولة كما يكافح العدوى .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"