نحو إنشاء مركز تحكيم وطني عالمي

02:36 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. حبيب الملا *

منذ سنوات أطلق مركز دبي المالي العالمي فرعاً لمركز LCIA الإنجليزي ليباشر إدارة عمليات التحكيم لديه، وتلاه مركز البحرين للتحكيم في تأسيس شراكة مع مركز AAA الأمريكي. كما أعلن سوق أبوظبي المالي العالمي مؤخراً عن إطلاق مركز تحكيم هو فرع لمركز ICC الفرنسي للتحكيم.
مما لا شك فيه أن التحكيم التجاري الدولي يلعب في العصر الحاضر دوراً مهماً في الفصل في المنازعات التجارية ذات الطابع الدولي، أي المنازعات التي يكون موضوعها مرتبطاً بالتجارة الدولية، إما لتعدد أطرافها أو لتعدد أماكن تنفيذها. وأصبح التحكيم بهذا المعنى نوعاً من الصناعة له أنظمته وقوانينه ومؤلفاته. كما تحولت بعض المدن إلى عواصم للتحكيم نظراً لنشأة مراكز تحكيمية مهمة فيها اكتسبت مع مرور الزمن ثقة المتعاملين في التجارة الدولية. وتقوم هذه الدول من خلال قوانينها وشركاتها بدعم مراكز التحكيم المتواجدة فيها لما في ذلك من مردود عليها من حيث السمعة والمكانة والتأثير والعائد المادي. كما أن صناعة التحكيم لها أثر في مكانة الدولة في مؤشر التنافسية الدولية. ولذلك تسعى الدول إلى إنشاء مراكز تحكيم ودعمها بالكوادر المؤهلة حتى تتواجد على خريطة التحكيم العالمية. سنغافورة كمثال أنشأت مركز تحكيم يحمل اسمها ويروج لها ومع التخطيط والدعم أصبح مركزها ضمن أهم ثلاثة مراكز تحكيم في العالم والأول في الشرق متفوقاً بذلك على مراكز أقدم منه.
ودولة الإمارات بحماسها وجدارتها للمراكز الأولى تستحق أن يكون لديها مركز تحكيم ذو طابع دولي يليق بمكانتها الإقليمية وثقلها التجاري.
إن فكرة قيام مركز تحكيم أجنبي، أياً كان هذا المركز، بالإشراف على وإدارة مركز تحكيم وطني، فضلاً عن كونه أمراً غير طبيعي فإنه يثير تساؤلات حول الغاية من مثل هذا الإشراف وهذه الإدارة. فإذا كان من شأن إنشاء صناعة وطنية للتحكيم أن يسبغ على الدولة قيمة مضافة، سواء من حيث السمعة المكتسبة للدولة أو من حيث المردود المادي الذي يعود عليها من خلال عمليات التحكيم التي تتم على أراضيها، فإن إحالة كل قضايا التحكيم المفترض معالجتها في الدولة إلى مراكز تحكيم أجنبية يعني حرمان الدولة من كل هذه المزايا والمكتسبات وتحول مركز التحكيم الوطني إلى مجرد وسيط يقتصر دوره على إحالة قضايا التحكيم في الدولة إلى ذلك المركز الأجنبي.
وبالتالي يستفيد ذلك المركز أجنبي السمعة والتأثير ويعزز سمعة ومكانة بلده الأصلي دون عائد يذكر للبلد المضيف. فضلاً عن ذلك فإنه عوض أن تقوم هذه المراكز الأجنبية بدفع رسوم للدولة مقابل السماح لها بالاستئثار بالقضايا الناشئة في الدولة وتحصيل رسومها فإن المراكز الحاضنة لها في الدولة هي التي تدفع لها رسوماً وتغطي مصاريفها في آية معكوسة وغير مفهومة. إن احتضان فروع لمراكز التحكيم الأجنبية قد يكون مفهوماً إذا كانت هذه الفروع تجلب للدولة قضايا دولية يتم الفصل فيها لدينا إنما أن يقتصر دور هذه الفروع للأسف على إدارة قضايا موجودة في الدولة وتحصيل رسومها لصالحها فهي بهذا المعنى لا تشكل أية قيمة مضافة.
قد يمكن هضم فكرة احتضان مراكز تحكيم أجنبية وفتح فروع لها في الدولة إذا كنّا نفتقد وجود مراكز تحكيم مؤهلة أو كوادر محلية قادرة على تحمل هذا العبء.
ولكن الإمارات لديها مراكز تحكيم ذات ثقل إقليمي بل ودولي كمركز دبي للتحكيم الدولي الذي أُنشئ بمبادرة من غرفة دبي ومركز الشارقة للتحكيم. وأتحدث عن مركز دبي للتحكيم الدولي لارتباطي به حيث بلغ هذا المركز العالمية وأصبح نداً لكل الأسماء الأجنبية من مراكز التحكيم التي فتحت فروعاً لها في الدولة. ولا أكون مبالغاً أو مجانباً للموضوعية إن قلت إن مركز دبي للتحكيم التجاري الدولي أصبح من أهم المراكز العربية على الإطلاق إن لم يكن أهمها. ويرجع ذلك لعدة عوامل منها: أولاً: وجود قانون يحفظ كينونة المركز ويضمن استقلاليته وحياده.
ثانياً: وجود خبرات عربية وأجنبية متميزة ضمن مجلس أمناء المركز الأمر الذي عزز الثقة بمصداقية المركز كما ساهم في الترويج له في مدن العالم المختلفة من خلال أعضاء مجلس الأمناء.
ثالثاً: إصدار المركز لنظام تحكيم يعد الأكثر تطوراً معتمداً في ذلك على خلاصة ما وصلت إليه أنظمة التحكيم في العالم.
ومن مؤشرات نجاح المركز وصول عدد القضايا المتداولة فيه إلى ما يزيد على 650 قضية وفصله حتى تاريخه في أكثر من ألفي قضية تجاوزت قيمة المبالغ المدعى بها في بعضها مليارات الدراهم.
إن إنشاء مركز تحكيم وطني لا يهدف فحسب إلى توفير موارد مالية للدولة بل إنه يخدم غاية أرقى وأسمى إذ يرمي في نهاية المطاف إلى تدريب وتأهيل الكوادر الوطنية في هذا المجال من خلال نقل المعرفة إليها حتى يصبح لدينا كادر وطني متميز في هذا المجال الحيوي والهام لعاصمة تجارية إقليمية كدولة الإمارات. وهذه هي الطريقة الصحيحة للاستثمار في رأس المال البشري المواطن وفقاً لرؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي رعاه الله، التي عبر عنها أكثر من مرة وضمنها رؤية الدولة الاستراتيجية.
إن ما طرحناه لا يعني عدم تأييدنا لفكرة وجود مراكز تحكيم ضمن إطار المراكز المالية العاملة في الدولة. بل على العكس من ذلك فإننا ندعو إلى إنشاء مثل هذه المراكز ودعمها وتأييدها على أن يكون ذلك بكوادر وطنية وضمن إطار وطني مطعم بعناصر وخبرات أجنبية شأنها في ذلك شأن المؤسسات الأخرى في تلك المراكز كالمحاكم والسلطات الأخرى العاملة فيها.
* كاتب وخبير قانوني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"