الإرهاب بين عقلاء الغرب ومجانينه

01:55 صباحا
قراءة 4 دقائق
عاصم عبد الخالق

يزخر الغرب بالعقلاء والمعتدلين، كما يفيض بالحمقى والمتطرفين، لديه مخزون وافر من النوعين. ووفرت هجمات باريس الإرهابية مناسبة جديدة للفرز، والتعرف عن قرب إلى الجانبين معاً. كشفت الهجمات عن الوجه الحقيقي للمجتمع الغربي، ما له وما عليه، بلا مبالغات في تصوير حسناته وشمائله، أو إسراف في تسجيل عيوبه ونقائصه. قدمت الواقع كما هو؛ من دون رتوش أو تشويه.

لا تسفر متابعة رد الفعل الأمريكي عن تسجيل أي مفاجآت في المعسكرين العقلاني المعتدل، أو الغوغائي المتطرف. نفس الانقسام الحاد؛ ونفس المسافات الشاسعة التي تفصل بين الجانبين.
بين النخبة، وعلى مستوى القاعدة، هناك أصوات هادئة معتدلة تضع ظاهرة الإرهاب في حجمها الطبيعي وتطالب بمواجهتها. في المقابل وعلى مستويي القمة والقاع أيضاً، هناك دعاة الكراهية ممن يروجون لخطاب عدائي بغيض ضد كل ما هو عربي ومسلم.
وإذا كان رد الفعل الغاضب من المواطن العادي يبدو مفهوماً، ولا نقول مقبولاً، حتى لو جنح إلى العنف في بعض الأحيان، فإن ما صدر عن النخبة السياسية ممثلة في المرشحين الجمهوريين لانتخابات الرئاسة الأمريكية لا يمكن تجاهله أو قبوله. يثير رد فعل المرشحين القلق والاهتمام لسببين؛ أولهما أن أحدهم قد يصبح الرئيس الأمريكي المقبل. وثانيهما لأنهم يمثلون أعلى المستويات الثقافية والاجتماعية والسياسية في المجتمع الأمريكي. وهم لهذين السببين يحظون بنفوذ كبير في التأثير على الرأي العام.
على سبيل المثال؛ وجد المرشح الجمهوري الأبرز دونالد ترامب في هجمات باريس فرصة ذهبية لإثارة المزيد من الجدل. ولم تكد الضجة التي فجرها بدعوته لإغلاق المساجد تهدأ، حتى أثار زوبعة أخرى بتصريح أكثر عنصرية أيد فيه «تسجيل» المسلمين الأمريكيين ومنحهم بطاقات هوية خاصة؛ من دون غيرهم. أي استنساخ لأسلوب النازي في فرز وتمييز اليهود.
ويبدو أن منافسه بين كارسون لم يشأ أن يترك له الساحة بمفرده، فخرج بتصريح أشد عنصرية شبه فيه اللاجئين السوريين بالكلاب المسعورة؛ منضماً بذلك إلى الحملة التي بدأت بعد هجمات باريس ضد خطة أوباما لاستقبال اللاجئين. والواقع أن كارسون، وبصرف النظر عن كلماته الجارحة، يعبر عن تيار عام معادٍ للاجئين. ووفقاً لما نشره «مركز غالوب» فإن 60% من الأمريكيين يعارضون استقبال اللاجئين السوريين مقابل 37% يرحبون بهم. نفس الحقيقة عبر عنها نحو نصف حكام الولايات الذين أعلنوا رفضهم استقبال لاجئين في ولاياتهم. كل هذا رغم أن العدد الإجمالي المقترح هو عشرة آلاف لاجئ فقط، في دولة تعدادها 320 مليون نسمة.
أمّا المرشح الجمهوري، تيد كروز، فقد وجدها فرصة لنقل المعركة إلى آفاق اللامعقول، عندما كرر أفكاره المشوشة ضد عدوه اللدود أوباما واتهمه بإخفاء نوايا سيئة ضد الولايات المتحدة. وبأن إيديولوجية متطرفة تقوده، ومن ثمَّ فهو، أي أوباما، يعرض أمن وسلامة البلاد للخطر. وبالطبع لم ينج المسلمون من لسان كروز الذي اتهمهم، وبلا تمييز بين الصالح والطالح منهم، بأنهم يستحلون الكذب التزاماً بتعاليم شريعتهم. هذا الهراء الذي لا يستحق الرد أو التعليق، أهميته الوحيدة أنه يصدر عن رجل قد يصبح رئيس الولايات المتحدة العام المقبل.
قافلة التطرف لا تنتهي، وفي صفوفها الأمامية يقف جون كاسيتش حاكم ولاية أوهايو، الذي طالب، بعد هجمات باريس، باستحداث وكالة فيدرالية لنشر القيم المسيحية، قبل أن يعدلها إلى القيم الغربية، عندما نبهه بعض العقلاء إلى أن الاقتراح مجرد ترجمة أنيقة لعبارة الحرب الصليبية.
في الجانب الآخر نكتفي بنموذجين للتعقل والموضعية. الأول من صحيفة «واشنطن بوست» التي نشرت مقالاً بعنوان «زيادة فظيعة للهجمات على المسلمين في أمريكا.. يجب أن تتوقف». حملت المقالة بشدة على المرشحين الجمهوريين وأدانت تصريحاتهم، واعتبرتهم دعاة حقد وكراهية. كما اتهمتهم بشحن الرأي العام وحشده ضد المسلمين. وأكدت أن هذا المناخ المعادي لهم يفوق مثيله بعد هجمات سبتمبر/أيلول 2001.
كلمات عاقلة أخرى عبرت عنها مقالة ثانية في «نيويورك تايمز» كتبها الصحفي الشهير بول كروغمان بعنوان: «خوفاً من الخوف نفسه». الفكرة التي يطرحها هي ضرورة التعقل في رد الفعل الذي تثيره الهجمات الإرهابية الأخيرة، معتبراً أن الكثير من الردود جاء عصبياً وغير واقعي. وأن أكثر ما يجب أن يخافه الغرب هو أن يستسلم للخوف، لأن هذا هو هدف الإرهابيين. يرصد الكاتب نموذجاً لرد الفعل الخاطئ ممثلاً فيما قاله المرشح الرئاسي الجمهوري جيب بوش، عندما وصف الهجمات بأنها محاولة منظمة لتدمير الحضارة الغربية.
يوضح الكاتب أن رأي بوش يعبر عن فهم مغلوط تماماً. فلا الإرهابيون يستطيعون تدمير الحضارة الغربية، ولا «داعش» بمقدورها غزو فرنسا أو إقامة الخلافة الإسلامية فيها، ولا هي تطمح في ذلك. غاية ما تجنيه من قتل الناس في الشوارع والمطاعم هو نشر الفزع. ولذلك فإن الوصف الصحيح لما تفعله «داعش» هو إرهاب وليس حرباً، لأن الكلمة الأخيرة تمنحهم وضعاً أكبر من حجمهم.

ملاحظة كروغمان الأخيرة هي أن الإرهاب ليس إلّا خطراً واحداً من عدة أخطار تواجه العالم، وليس الغرب وحده. ولذلك كان أوباما على حق عندما قال، أخيراً: إن التغييرات المناخية هي أكبر تهديد للعالم. إذ ليس بوسع الإرهاب تدمير الحضارة الغربية، لكن ارتفاع حرارة الأرض بكل ما يصاحبه من تقلبات مناخية كارثية، يمكن أن يدمر بلاداً بأكملها ويودي بحياة الملايين. طوبى للعقلاء.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"