بأي ذنب قتلت؟

03:09 صباحا
قراءة 3 دقائق
جاءت إلينا وقد عاث الناس في أرضهم فساداً، وتناحرت القبائل وكثر بينها الهرج والمرج، فكانت رمال الصحراء مخضبة بالدماء، وفسدت الأخلاق وتدنى مستوى الإنسانية، وكل هذا يدور بعقلية بشرية، هذه العقلية التي تتعدد فيها الأهواء والأمزجة والرغبات، تنتصر للقبيلة ظالمة أو مظلومة، وتقتل البريء بلا سبب، وحتى الطفلة الوليدة التي خرجت من ظلمات الرحم إلى الدنيا صارخة، أسكت صراخها بإرجاعها إلى ظلمة القبر، ولم تمنح فرصة لتتساءل عن الذنب الذي ارتكبته حتى تقتل بدم بارد، وحين عجز العقل عن تنظيم أمور حياته التي تحوّلت إلى غابة مملوءة بالسلب والنهب والفحش والفجور، وساد قانون الغاب على المجتمعات، أتت رسالة السماء من الواحد الأحد "وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ . بِأَي ذَنبٍ قُتِلَتْ" .
هذه الرسالة فهمها العقل الذي دخلته أنوار هذا الكون لتنير له دروب الظلام والجهل والتخلف، ولم يكن في حاجة إلى شهادة علمية أكاديمية عالية ليصل إلى فهم الحقيقة، فهو بأعرابيته وأميته يقول رداً على السائل الذي قال له: بم عرفت ربك؟ فقال: الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير؟
فهم هذا الأعرابي بعقله وحسّه وفطرته أن هذه المتحركات على الأرض لم تخلق نفسها، ولذلك لم يرهق عقله بفلسفة لا تؤدي به إلا إلى الانبهار أو الإلحاد والعيش على هذه الأرض بلا هدف، أو بفكر لا يؤمن بما وراء عمره الافتراضي، والعقل يقول أيضاً إن من يصل إلى هذا الفهم سيعمل حسب ما يقوله المثل "من أمن العقوبة أساء الأدب"، فلا عقوبة يخافها بعد انتهاء حياته لأنه لا يؤمن بحياة أخرى، وإن خاف فإن خوفه سيقتصر على عقوبة إنسان مثله لكنه قادر عليه بسلطة أو نحوها .
هناك من يفتح للعقل كل الأبواب للتفكير في كل شيء، لكنه يغلقه عن التفكير في الخلق والعدم، في الحياة والموت، وهناك من فهم بالعقل أيضاً فهماً آخر يناقض هذا الاعتراف، ويقول المعري:
خُلق الناس للبقاء فضلّت
                    أمةٌ يحسبونهم للنفاد
إنما ينقلون من دار أعمالٍ
                  إلى دار شِقوة أو رشاد
ضجعةُ الموت رقدةٌ يستريح
         الجسمُ فيها والعيش مثل السهاد
إلى أين سيصل بنا هذا العقل إن تمرد؟ وإلى أين سنخرج به؟ وإلى أي نقطة في هذا الفضاء ستحط عليها رحاله ونحن نقرأ رسالة السماء أيضاً "يَا مَعْشَرَ الْجِن وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا، لا تَنفُذُونَ إِلا بِسُلْطَان" .
هذا العقل الذي يملكه الإنسان وله ارتباط قوي بقدرات الجسد التي قد تجعله ضعيفاً أو قوياً، وتتحكم بالتالي فيما يقوم به من أفعال لا تأتي من عدم، بل هي أيضاً من موجودات العقل كالغضب والشعور والعاطفة والانتقام والصفح .
العقل بحاجة إلى أن يرتبط بحسه وفطرته، ويعمل معها عملاً تكاملياً، ثم يفكر فيما كان قبل أن تصل إليه رسالة السماء، وهل استطاع من دون هذه الرسالة أن يكون منظماً منضبطاً عارفاً على الأقل ما يناسب إنسانيته وما يؤدي بها إلى ظلمات وأنفاق التناحر وإرهاب الناس وتجويعهم، أن يشعر بإنسانية غيره، وبأنه يشاركه هذه الحياة التي لا يمكن أن تكون موجودة من عدم، ففاقد الشيء لا يعطيه .
العقل بحاجة إلى أن ينير دربه برسالة السماء التي أتت بالرحمة والعطف والتواصل والبناء وإعمار هذه البسيطة التي نحن ضيوف عليها، فإعمارها بالحب سيجعل مهمة الانتقال إلى ما بعدها انتقالاً سلمياً وإنسانياً جميلاً .

محمد عبدالله البريكي
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"