الأواني المستطرقة الإيرانية

03:33 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

منذ الثورة الإسلامية الإيرانية في عام 1979، بدا واضحاً أن السياسة الإيرانية تولي الملفات الخارجية اهتماماً أكبر من اهتمامها بالملفات الداخلية، وقد أتت الحرب الإيرانية-العراقية (1980-1988) لتعطي النظام السياسي الإيراني في منح اهتمامه بالشؤون الخارجية شرعية أمام الداخل، فككل الأنظمة الشمولية، التي تحتاج إلى تدعيم شرعيتها، مضى النظام السياسي الإيراني خطوات كبيرة في ترسيخ وجوده الإقليمي من أجل تحقيق شرعية النظام، بوصفه صاحب قضايا كبرى، تحتاج من الداخل، أي من المجتمع الإيراني، التكاتف معه، وعدم إبداء أي معارضة ضد سياساته.
وعلى الرغم من وجود تيار إصلاحي لا يستهان به في السياسة الإيرانية، وداخل مؤسساتها، إلا أن التيار المحافظ بقي مسيطراً على مجمل السياسة الإيرانية، وقد تمكّن هذا التيار منذ البدايات أن يوجد مؤسسة عسكرية موازية للجيش تمثلت ب «الحرس الثوري الإيراني»، والذي يعد من نواحٍ كثيرة أقوى وأهم من الجيش الإيراني نفسه، كما لعبت قوات «الباسيج» (قوات التعبئة الشعبية) التي تأسست في نوفمبر 1979، دوراً مهماً في قمع أي حراك داخلي مناهض للنظام، وبذلك فقد أوجد النظام السياسي جملة من الأدوات العسكرية والأمنية للهيمنة على المجتمع والسياسة.
ومنذ اللحظات الأولى للثورة الإسلامية، وضع قادتها السياسة الإيرانية في حالة عداء مع الولايات المتحدة، ومع جزء كبير من الغرب، وقد بقيت ورقة العداء لأمريكا مفيدة للنظام السياسي من أجل خلق هوية سياسية للنظام نفسه، تدعم استمراره، بوصفه نظاماً معادياً للغرب، والهيمنة الأمريكية، وقد تحوّل هذا الشعار نفسه إلى أداة قمع داخلية، بحيث إنها سهّلت اتهام معارضي النظام بأنهم مدعومون أمريكياً، وبأن هدفهم إسقاط النظام المعادي لأمريكا، وبالتالي محاصرتهم داخلياً، بوصفهم عملاء، لا يمتلكون برنامجاً وطنياً.
وفي استعادة لسياسات الدول العظمى في القرن التاسع عشر، راحت السياسة الإيرانية تعمل على مدّ نفوذها في محيطها الإقليمي، مستفيدة من انهيار منظومة الأمن والاستقرار القديمة، فقد وجدت في التدخل الأمريكي في العراق لإسقاط نظام صدام حسين في عام 2003 فرصة لدخول الساحة العراقية، وقد تمكّنت من بناء نفوذ قوي داخل القوى السياسية، كما أسهمت في إنشاء فصائل عسكرية خارج إطار الدولة، خصوصاً أن الدولة العراقية كانت قد انهارت، وأصبحت العديد من الفصائل العراقية تابعة بشكل مباشر لطهران.
لم تكن فكرة استقرار العراق ضمن مخططات السياسة الإيرانية، بل على العكس من ذلك، فقد رأت إيران أن بقاء العراق دولة فاشلة أفضل بكثير لخدمة مصالحها، وقد طوّرت إيران من هذا الاتجاه في سياساتها ليمتد أكثر فأكثر نحو دول عربية أخرى، حيث باتت تميل إلى التكيّف مع فشل الدول، وتجد في ذلك الفشل فرصة للهيمنة العسكرية والسياسية، يساعدها في التحول إلى لاعب إقليمي كبير، مستفيدة من تداعيات ما يسمى «الربيع العربي» في عدد من البلدان العربية.
وعلى الرغم من وجود إشارات كثيرة إلى صعوبة الأوضاع داخل إيران، ورغبة قطاعات واسعة بالتغيير، إلا أن النظام السياسي في إيران بقي متجاهلاً تلك الإشارات، خصوصاً بعد تمكنه من إجهاض «الثورة الخضراء» في عام 2009، وتحجيم دور القادة الإصلاحيين، ومنع احتكاكهم بقواعدهم الشعبية، كما اعتبر النظام السياسي الإيراني نفسه منتصراً في صفقته مع الولايات المتحدة والغرب في الملف النووي، وعوضاً من تحويل ذلك «النصر» إلى مكاسب شعبية اقتصادية، فقد استخدمه من أجل إحراز المزيد من التوسّع والتدخل في ملفات المنطقة.
إن التوسع الإيراني الخارجي لم ينعكس على الداخل الإيراني إيجابياً، بل على العكس من ذلك، فقد دفعت قطاعات واسعة ثمن ذلك التوسع، بانكفاء اهتمام النظام السياسي عن تطوير الاقتصاد الإيراني والخدمات وتوفير فرص العمل للشباب ومكافحة الفقر، والاهتمام بأدواره الخارجية، وهو على خلاف المنحى الاستعماري في القرن التاسع عشر، حيث كان استعمار الدول الكبرى لغيرها من الشعوب ينعكس في تطوير التكنولوجيا والاقتصاد وتوفير فرص عمل جديدة وبناء المؤسسات.
إن الحراك الشعبي الإيراني اليوم هو نتيجة أكيدة للخلل في توازن الأواني المستطرقة بين الداخل والخارج، وصرخة احتجاج شعبية على تهميش حاجات المجتمع لمصلحة الطبقة السياسية المستفيدة، والتي لم تدرك -كغيرها من نظيراتها في الأنظمة الشمولية- بأن شرعية الخارج لا تكفي لاستمرار النظام السياسي، وأن صمت القوى المجتمعية عن تهميشها لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، فالمجتمعات تحيا عبر الاقتصاد والتنمية وليس عبر الأيديولوجيا، والمجتمع الإيراني ليس استثناء، فلم تعد تنطلي عليه الشعارات الكبرى، وهو يريد أن ينعم بالحرية والرفاه والسلام.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"