جدل المفاهيم والممارسة السياسية

03:53 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

تخبرنا الفلسفة، كما السياسة، بأن الإنسان كائن مفاهيمي، فهو يتعامل مع الواقع من خلال ما يمتلك من مفاهيم، فيقدّس قيمة ما أو يحطّ منها انطلاقاً من مفهومه عن تلك القيمة، والأسوأ دائماً في الممارسة الفكرية، أياً كانت، هو تحويل الكلمات/ المفاهيم إلى مقدّسات، فنصبح حينها أمام جوهرٍ ثابت لا يأتيه الباطل من أمامه ولا من ورائه، وتعكس العلاقة مع المفهوم مستوى تطور الأفراد والجماعات، ومدى حضور العقلانية في حياة الكيانات، من مؤسسات وشعوب ودول.
يرتبط المفهوم بالماهيات، بالكلي، والمجرد، ولهذا فإنه يسهم في تكوين هوية البشر، ونظرتهم إلى حياتهم وأنفسهم، إلى فاعليتهم أو سلبيتهم، إلى تقدّمهم أو تأخّرهم، وبالتالي فإن مقاربة الهويّة، لا يمكن أن تحدث، من دون عدّة مفاهيمية، أي جملة مفاهيم من شأنها أن تُعرّف الهويّة في لحظة محدّدة من لحظات التاريخ الإنساني، فانشغال المفاهيم بالماهيات هو محاولة دؤوبة من قبل الإنسان لمنح أفعاله معنى ما، أي قيمة ما، تجعله يستشعر وجوده نفسه بوصفه جزءاً من القيمة الأعلى.
يشكل حقل السياسة بوصفها حقل اجتماع المصالح البشرية وتناقضاتها، ساحة خصبة للصراع على امتلاك المفاهيم، وأحياناً احتكارها، في مواجهة الخصوم السياسيين، وبهذا المعنى فإن حقل السياسة على الرغم من كونه حقل المصالح المباشرة من اقتصاد ومال ونفوذ وهيمنة وإخضاع، إلا أن هذه المصالح لا يمكن أن تتواجد من دون مفاهيم، أو لا يمكن تمريرها إلا من خلال المفاهيم، وذلك ما يفسّر تلك الحاجة الملحّة للسياسي لصنّاع المفاهيم، وللأدوات التي تسمح بتعميمها، من مثل الجامعات والإعلام والاجتماعات الحزبية والخُطب العامّة الموجهة لعموم الجماهير، وفي يومنا هذا أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي جزءاً من ساحة صناعة المفاهيم أو تمريرها.
ميزة المفاهيم، أو واحدة من أهم مميزاتها، أنها حقل خصب للنسبية، وعلى الرغم من تحوّل بعض المفاهيم إلى حالة استقرار في مجتمعات معينة، إلا أن هذا الاستقرار لا يصونها من الجدل والاختلاف، فلا يعمل المفهوم لوحده، إنه يحتاج إلى مفاهيم أخرى ترتبط به، وإلى خطاب يتبناه، ومع وجود الخطاب يتحوّل المفهوم نفسه إلى جزء من أدوات سلطة ما، كون الخطاب بحدّ ذاته سلطة، كونه يعكس مصالح فئات اجتماعية ونخبوية معينة.
في الممارسة السياسية، كثيراً ما يتمّ إفراغ المفاهيم من قيمها الأساسية، وذلك عبر مدّها بجرعات أيديولوجية، وتحويلها إلى أصنام، فالأحزاب والأنظمة الحاكمة تضع المفاهيم في خدمة أهدافها، وكلّما كان النظام السياسي العام فاقداً للتعددية، كلّما تحجّرت المفاهيم، وأصبحت، مهما كانت، قيوداً على الأفراد والمجتمعات، وعائقاً أمام التقدّم، فهي لا تعود فضاءً للنسبية، وإنما مطلقات غير قابلة للنقض، وكلّ مطلق، بهذا المعنى، هو حدّ على عقلانية وإنسانية النسبي، بل ونسف لمعنى المطلق نفسه بوصفه مثالاً ملهماً.
في العقد الماضي، شهد الحقل السياسي العربي سيولة هائلة، إلى حدّ التناقض، بين المفاهيم والممارسة السياسية، ما أفقد مفاهيم أساسية الكثير من معانيها، ففي الوقت الذي تتصارع فيه قوى محلية وتتقاتل في غير بلد عربي، ويتم استجلاب الاحتلالات من جديد، تطرح القوى المتصارعة شعار/ مفهوم السيادة، وتعلن بلا انقطاع أنها تدافع عن هذا المفهوم، لكنها في كل تعبير أو إجراء سياسي تقوم بنسف هذا المفهوم من أساسه، وتمارس نقيضه.
إن إنتاج المفاهيم عملية تحتكم في جزء كبير منها إلى المناخ السياسي العام، وإلى وجود بيئة تسمح فعلياً بحدّ معقول وعقلاني من التوافق على ماهية المفهوم، وكيفية تحويله من مجاله المجرّد إلى حالة إجرائية تسهم في استقرار الحياة العامة، والارتقاء بحياة المواطنين على الصعد كافة، بل وتسمح بحدوث مراجعات قيمة للإجراءات الإجرائية نفسها المؤسسة على مفهوم معين، فالاتفاق العام الذي يقيمه مجتمع ما، بقواه الحيّة، وفاعلياته المختلفة، على أن مفهوماً مثل الديمقراطية هو بالضرورة يتضمن حياة سياسية قائمة على التعددية وحقّ التعبير، من شأنه أن يسمح ببلورة قوانين داعمة لحقوق الأفراد في اختيار ممثليهم السياسيين، وبناءً عليه يصبح بالإمكان قياس مدى تحقق المفهوم في الواقع، عبر مؤشرات كمية وكيفية، من شأنها أن تقول إلى أي مستوى يعمل قانون الجدل بين المفهوم المجرّد والممارسة السياسية الواقعية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"