العرب وأزمة بناء الدولة

03:43 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

منذ ما بعد الاستقلال عن الانتدابات التي عرفتها معظم الدول العربية، كان سؤال الدولة هو الغائب الحاضر، فعملية الانتقال من وضع تاريخي ما، إلى آخر محكوم بالانتقال في الصيغة القانونية، التي هي في المآل الأخير صيغة ما فوق قانونية، فالصيغة القانونية الجديدة، أي صيغة الاستقلال، هي في نقطة البداية، وفي المسار، نتيجة لعمليات التفاعل المختلفة التي تجري في المستويات الاجتماعية المختلفة، وفي مقدمتها المستوى السياسي. فالاستقلال ليس مجرد خروج من تحت سلطة ونفوذ وقوانين دولة الانتداب، وحسب، وإنما تحول تاريخي، من أهدافه الكبرى حماية مفهوم الاستقلال نفسه، أي الدفاع عن السيادة.
فرص العرب في بناء الدولة لم تكن هي نفسها، نتيجة للتفاوت الكبير في المعطيات الجيوسياسية، والاقتصادية، والثروات الطبيعية، وتطوّر النخب، وما إلى ذلك من معطيات التفاوت الكثيرة، التي تجعل من تساوي فرص العرب في بناء دولهم مختلفة، ومتباينة من دولة إلى أخرى، لكن ذلك لا يمنع، على الأقل من حيث النتائج، من القول إن ثمة أزمة بادية للعيان في بناء الدولة الوطنية العربية، حيث يمكن حصر عدد من الأسباب المتشابهة في عموم الدول العربية، والتي حالت، ولا تزال، دون بناء الدولة الوطنية، بمعانيها الحديثة.
وفي مسيرة تطوّر مفهوم الدولة الحديثة، لا نشهد توافقاً في مسار تاريخ بناء الدولة، لكن ما يمكن التأكيد عليه في دراسة الدول أن الفكر السياسي، وعبر التجربة والتحليل، قدّم عدداً من المفاهيم حول الدولة، بدأت بشكل فعلي نتيجة الحاجة أولاً، والملاحظة المعرفية ثانياً، انطلاقاً من ضرورات القطع مع المعطى الطبيعي، والانتقال إلى المعطى الاجتماعي، على اعتبار أن الدولة هي شكلٌ متطور من أشكال تنظيم المجتمع.
وقدّم الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (1588-1679) أطروحة متكاملة حول الدولة، تأسّست انطلاقاً من اعتبار الدولة بمثابة آلة، تتمتّع بسلطة مطلقة فوق الجميع، من أجل الحفاظ على أمن، وسلامة المجتمع، لكن فلسفة هوبز، ومفهومه حول الدولة، سيعدّ لاحقاً مجرد نموذج للانتقال من فكرة الحقّ الإلهي، إلى العقد الاجتماعي، أي الانتقال من حيّز ما قبل الاجتماع البشري إلى حيّز ممارسة السياسة، بوصفها مجالاً وضعياً، خاضعاً لإرادات البشر.
وما يهمّنا في سياق البحث عن أزمة الدولة الوطنية في العالم العربي هو تماماً مجال البحث في طبيعة هذه الدولة، والسؤال عن مدى توافقها مع ضرورة أن تكون الدولة نتيجة لعقد اجتماعي بين مكوناتها من جماعات، وأفراد، وليس من أجل تأكيد فكرة هوبز عن السلطات المطلقة للحاكم، التي تمّ تجاوزها في خضم السوق الرأسمالية، والتي غيّرت إلى حدّ جذري من مفهوم الدولة/ السلطة، ومنحت تاريخنا المعاصر نماذج مختلفة، لكنها تتشارك فيما بينها في عدد من الخصائص، أهمها الليبرالية، والديمقراطية، والحقوق المدنية.
لم تعرف الدولة الوطنية العربية تطوّراً رأسمالياً في دورة الإنتاج، بل تمّ القطع مع أي إمكانية حقيقية أمام نمو سوق تنافسية، فأصبحنا أمام نماذج هجينة في الاقتصاد، لكنها بالمجمل نماذج غير إنتاجية بالمعنى الحديث، ما ساعد في إنتاج سلطات سياسية تتمتع بسلطات شبه مطلقة، في ظل غياب الإمكانات الحقيقية التي تُحدث التفاعل بين المكونات الاجتماعية، وتتيح إنتاج فضاء سياسي يقوم على التنافسية، والاختيار الحر للمواطنين بين البرامج السياسية والاقتصادية والخدمية. وإذا كانت السياسة هي التكثيف الأعلى لحركة الاقتصاد، فإن السياسة في العالم العربي، متضمنة الدولة، هي نتيجة تسيّد أنماط اقتصادية متأخرة، لكنها في الوقت نفسه، هي نتيجة تكلّس بنى السلطة، والانفصال الواقع بينها وبين تاريخ العالم المعاصر، فما زالت السلطات السياسية تختصر الدولة في نفسها، وهذا الشكل من أشكال الممارسة للسياسة لا يمت بأي صلة للمفهوم الحديث للدولة، ويعرقل أي تطوّر في نموّها.
ولا يمكن للدول المنفصلة عن تاريخ العالم المعاصر ودينامياته أن تنجو إلى ما لانهاية من أزمة التأخّر والفوات التاريخي، فهي لن تكون قادرة على منع حالات التمرّد المجتمعي عليها من قبل الفئات الطامحة إلى التغيير، خصوصاً جيل الشباب، أو القوى المهمّشة، كما أنها لن تكون قادرة على حماية نفسها من المشاريع السياسية والاقتصادية العملاقة للدول الكبيرة، وهي بذلك تضع نفسها، كما تضع شعوبها، أمام مأزق وجودي خطير، يهددها، ويهدد دولها، ومجتمعاها بالتفتت.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"