العرب وأفق الحداثة المغلق

03:01 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

إذا أمكن تقديم تكثيف موجز للحداثة، فإن أفضل تكثيف لها هو أنها خروج الاجتماع البشري من منظومة إنتاج وقيم القرون الوسطى، وتجاوزها إلى منظومة إنتاج وقيم جديدة، التي أصبحت تعرف لاحقاً باسم الحداثة، مستندة إلى قاطرة الرأسمالية في الإنتاج، ومنظومة القيم الليبرالية، بكل ما تتضمنه هذه المنظومة من إعادة تعريف للعلاقات، من مثل علاقة الأفراد والمجتمعات بالسلطتين الدينية، والزمنية/ السياسية.
ووفقاً لهذا التكثيف، فإن الحداثة صيرورة تاريخية، وليست لحظة قطيعة واضحة، وحاسمة، فهي لا تحدث مرة واحدة وإلى الأبد، في خطّ تقدمي للتاريخ، وإنما قابلة لأن تشهد انتكاسات كبرى، كتلك التي مُنيت بها الحداثة الغربية عبر حربين عالميتين، كانتا اختباراً حقيقياً لقيم العقلانية التي تدّعيها الحداثة، لكن، ولهذا السبب بالذات الذي تمثّله إمكانية الانتكاس، فإن ما يعوّل عليه هو مدى رسوخ البنى الاقتصادية والاجتماعية للحداثة، أي الخيار الاقتصادي الليبرالي، الذي يحمل في دينامياته إمكانات تصويب المسار التاريخي.
الحداثة الغربية لم تعد نموذجاً محتكراً من قبل الغرب، فمع تعميم نمط الإنتاج الرأسمالي في العالم، بنسبٍ متفاوتة، دخلت عناصر حداثية كثيرة إلى المجتمعات، بل إن بعض المجتمعات والأنظمة تمكّنت من القيام بعمليات تكيّف مع تلك العناصر، مقدّمة بذلك نماذج حداثية جديدة، كما في المثال الياباني، الذي يعدّ نموذجاً خاصّاً في عملية التكيف بين المعطيات الثقافية والاجتماعية التاريخية للأمة اليابانية، وبين منظومة الإنتاج الرأسمالي، والقيم الليبرالية الحداثية.
وبما يخصّ أزمة الفشل العربية في ولوج الحداثة، بعد ما يقارب القرن من صدمة الآخر الاستعماري، وانبثاق الأسئلة الكبرى حول الذات والعصر، وتقديم إجابات متنوعة، تنتمي إلى أيديولوجيات متباينة ومتناقضة، إلا أن ما هو مؤكد في هذا السياق أن البنى المحافظة بقيت قوية، وراسخة، على الرغم من اكتسابها بعض التغيّر في المظهر العام، وبقيت تعيق التحولات الضرورية من أجل ولوج عالم الحداثة.
وفي هذا السياق، فإن طبيعة الاقتصاد ليست عاملاً ثانوياً، كما أنها ليست منفصلة عن عموم الديناميات الأخرى، وبناءً عليه، فإن عموم الاقتصادات العربية استوعبت بعض ملامح النظام الرأسمالي، لكنها بقيت خارج هذا النظام، فقد بقيت السلطات السياسية العربية هي الموجّهة لدورة الإنتاج، مع اختراع وتطبيق آليات ضبط للسوق، لمنع أي تحرير له، وبالتالي منع نشوء قوى اجتماعية قوية، قادرة على تبني مشاريع سياسية مناقضة لمشاريع الأنظمة السياسية الحاكمة، والتي أصبحت، أي مشاريع الأنظمة السياسية، تتمحور حول السلطة وحدها، من دون اعتبارات أخرى.
إن ما يطلق عليه اصطلاحاً «البرجوازية الوطنية» كتوصيف للطبقة المحرّكة للاقتصاد، بقي في عالمنا العربي مصطلحاً مشوّهاً، يماثل ما اعترى هذه البرجوازية من تشوّه، فهي لا تمثّل قاطرة الاقتصاد الوطني، كما أنها لا تنتج السياسات العامة، ولم توجد أحزاباً تمثّل مصالحها، كما أنها لم تقترن بالنخب الفكرية الليبرالية.
الحداثة الليبرالية الغربية خاضت في مسيرتها الطويلة صراعات فلسفية وسياسية وقانونية ضد احتكار السلطات الدينية للفضاء العام، وتمكّنت من إعادة هندسة هذا الفضاء، لمصلحة التنافس بين القوى المنتجة في المجتمع، وبناء أنظمة سياسية محايدة تجاه العقائد والأفكار، ما أنتج، عبر صيرورة طويلة، منظومة الحقوق المدنية للأفراد، وأسهم في توازن المجتمعات، عبر منظومة القوى المدنية، من مثل الأحزاب والنقابات والجمعيات والاتحادات.
وفي المقابل، أعاقت الأنظمة السياسية العربية بلورة أنظمة دستورية تحمي الحقوق المدنية، في الوقت الذي ذهبت فيه إلى خيارين متناقضين في علاقتها مع القوى السياسية/ الدينية، فإما تقديم تنازلات كبيرة، وإما تصادم دائم، من دون إفساح المجال لنمو قوى مدنية ليبرالية، من شأن وجودها، ونموّها، ورسوخها، أن يعيد هندسة الفضاء العام، لمصلحة التنافس السلمي، القائم على المصالح المحددة، وليس على الأيديولوجيات في إطلاقها وتعميمها، بما فيها الأيديولوجيا الدينية التي يُعاد تفعيلها واستثمارها بين حين، وآخر، بأشكال متعددة، من بينها الشكل العنفي/ الجهادي.
إن الأوضاع الراهنة، بما فيها التحدّيات الوجودية لبعض الدول العربية، هي بشكل، أو بآخر، مظهر من مظاهر ممانعة الأنظمة السياسية لزمن الحداثة، بوصفه زمن النسبية، في محاولة للحفاظ على زمن السلطة المطلق.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"