الفوات السياسي والأيديولوجي العربي

03:27 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو
على الرغم من الانفجار العربي الذي بدأ مع الثورة التونسية، وانتقل إلى بلدان أخرى، مُدخلاً بعضها في حالة حرب، من غير المعروف نهايتها، إلا أن هذا الانفجار لم يأخذ حقه من الملاحظة الجدية من قبل النخب العربية الحاكمة، أو من قبل التيارات والأحزاب السياسية، بل إن تداخلات الوضع الراهن وإفرازاتها، من مثل الإرهاب، وقضايا الأمن والدفاع، والعلاقات الإقليمية، والتحالفات الدولية، احتلت ظاهر المشهد السياسي، وهو ما جعل من نقاش البنية السياسية للعالم العربي أمراً شبه هامشي، خصوصاً مع انكماش الكثير من السلطات العربية الحاكمة تجاه استحقاقات التغيير، والخوف من دخول بلدانها ومجتمعاتها في سيناريو عنفي، على غرار سوريا والعراق وليبيا واليمن.
لقد استمدت معظم النخب العربية الحاكمة بعد الاستقلال شرعيتها الأيديولوجية من العروبة والإسلام، وحتى النخب الليبرالية أو الاشتراكية حاولت القيام بعملية توفيق بين مصادرها الجديدة وبين المصادر التاريخية الموروثة، وهو ما أوجد خلطات إيديولوجية غير متجانسة، بل يشوبها الكثير من الخلط المعرفي، خصوصاً بين معطيات الهوية التاريخية للشعوب وبين متطلبات العمل السياسي، وهكذا فقد تبنت الكثير من النخب الحاكمة شعارات فضفاضة، وغير عملية، تتناقض مع مستوى التطور التاريخي، في شقيه الاقتصادي والاجتماعي، لشعوبها.
وفي هذا السياق، تبدو تجارب الأحزاب القومية العربية كمثال ساطع على الخلط بين الضرورات السياسية المرتبطة بحاجات واقعية لمجتمعاتها وبين أهداف بعيدة الأمد، وقد تحولت تلك الأهداف مع الوقت إلى شعارات فارغة من أي مضمون جدي.
وبدلاً من دخول العمل السياسي، بفعل التغيرات المعرفية والدولية، أفقاً جديداً، لإعادة إنتاج هويات مطابقة سياسياً لمجتمعاتها، بكل ما فيها من تنوع وتعدد، وبناء الدولة الحديثة، راحت الممارسات السياسية، وما نتج عنها من برامج اقتصادية ومجتمعية، تنحو إلى إعادة إنتاج أيديولوجيات مفوتة، محكومة بفعل فواتها بأزمات عديدة، وخصوصاً لجهة تعريف الذات، وهو ما أبقى المجتمع أسيراً لصراعات الهوُية، تلك الصراعات التي سرعان ما تأخذ طابعاً عنفياً حين تسمح الظروف بذلك، كما حدث في بعض بلدان ما يسمى «الربيع العربي»، أو تبقى تلك الصراعات نائمة، بانتظار الظرف الملائم لانفجارها.
لم تستجب معظم النخب العربية الحاكمة لمتطلبات التطور التاريخي، وفي مقدمتها الاستجابة لتبني مفاهيم جديدة لقضايا، من مثل الدولة، والنظام السياسي، والمجتمع المدني، والمواطنة، وغيرها من المفاهيم الأساسية لبناء الدول الوطنية الحديثة، ونقل الصراعات من صراعات ما قبل وطنية، أو فوق وطنية، إلى حالة التنافس الوطني، وساحاته الرئيسة، المتعلقة بتنظيم الحياة السياسية التي تضمن أوسع مشاركة ممكنة من قبل المواطنين، وبتطوير البنى الاقتصادية والتعليمية، والخدمية.
إن مؤشرات التنمية في معظم الدول العربية تؤكد أن دول العالم العربي في حالة تراجع، وأن الفوارق الطبقية في حالة ازدياد، وأن المدن العربية فقدت قدرتها على أن تكون تعبيراً عن الحداثة، خصوصاً أن الكثير من المدن شهدت في العقود الأخيرة نمواً هائلاً للعشوائيات، كما تراجعت الصناعة، وظل القطاع الزراعي قطاعاً تقليدياً، بالإضافة إلى عشرات المؤشرات التي تكشف عن حالة انفصام بين النخب الحاكمة وبين المجتمع، وعدم تحملها مسؤولياتها التاريخية.
إن الفوات السياسي والأيديولوجي القائم هو فواتٌ مكرس ومحمي من قبل قوى القديم، وهي قوى تمتلك من ممكنات وقدرات ما يسمح لها بتعطيل أي تحول تاريخي قد يضر بمصالحها، كما أنها لا تمتلك في سجل ممارساتها ما يمنعها أن تذهب نحو أقصى العنف للدفاع عن مكانتها التاريخية، ومثال ذلك النظام السياسي السوري، حيث أصبحت الدولة ملكاً للطبقة السياسية الحاكمة، وأصبحت مهام الجيش الدفاع عمن يحكم، وليس الدفاع عن الشعب، وأصبحت الشرعية شرعية القوة، وليست تكثيفاً لمدى القبول المجتمعي بالنظام السياسي.
إن اشتقاق القوى السياسية الموجودة في السلطة أو المعارضة العربية على حد سواء لشرعيتها من هويات تاريخية، تحيل إلى انتماءات ما فوق وطنية، لا يعكس فقط مستوى فواتها الأيديولوجي، بل أيضاً فواتها السياسي، فهدف الممارسة السياسية هو تحقيق برامج وطنية تخدم مختلف الفئات الاجتماعية، ورفع المعاناة عنها، وجعلها شريكة في اتخاذ القرار، وتحقيق تنمية مستدامة للأجيال المقبلة.
ثمة حاجة فعلية في عالمنا العربي إلى تخليص الأيديولوجيا من التاريخ والعقائد، أي تخليصها من فواتها، وثمة حاجة لإعادة تعريف الممارسة السياسية، وجعلها ممارسة مرتبطة بشكل مباشر بحاجات البشر الأساسية، وهي الممارسة الحديثة للسياسية، حيث لا مكان لقوى سياسية فوق الواقع، تمارس عليه استعلاءها، وتجعله رهينة بيدها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"