مأزق النخبة في العالم العربي

02:28 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

منذ انطلاقة ما يسمى «الربيع العربي»، أخذ مفهوم النخبة حيّزاً واسعاً من النقاش الفكري والسياسي في العالم العربي، فعند المقارنة بين النجاح الجزئي لموجة التغيير في بعض البلدان وفشلها الهائل في بلدان أخرى، يحضر مفهوم النخبة كجزء من عملية المقارنة نفسها، فالنخبة فاعل رئيسي في عملية التغيير، ويتوقف على ما تتخذه من مواقف، استجابة أو رفضاً، المنحى الذي ستتخذه عملية التغيير نفسها، لما تتمتع به النخبة من موقع قيادي، ولما يترتّب على ذلك الموقع من مسؤوليات، لا تترتّب على باقي أفراد المجتمع.
يعاني استخدام مفهوم النخبة من إشكالية بنيوية تتعلق بالمفهوم نفسه، حيث شهد هذا المفهوم تحوّلات كثيرة، وأصبح يطلق على الفاعلين البارزين في حقول اجتماعية متعددة، بل إن إحدى المشكلات البنيوية الكبرى تكمن في كونه يمحي خصوصية الأفراد المنضوين تحت تصنيف النخبة، ويجعل من الصفة الانتقائية العامة (السياسة، الاقتصاد، الجيش، التكنولوجيا.... إلخ) هي العامل الموحد الذي يمنح أفراد النخبة مكانتهم في موازين القوى من جهة، وفي المنظومة القيمية من جهة أخرى.
كان عالم الاقتصاد والاجتماع الشهير فلفريدو باريتو (1848-1923) أول من أعطى مفهوم النخبة اهتماماً واسعاً في تحليلاته ونقده الاجتماعي، حيث يميّز بشكل رئيسي بين النخبة الحاكمة والنخبة غير الحاكمة، حيث تمتلك الأولى القوة والثروة، بينما تفتقد الثانية إلى القوة، لكن هذا المفهوم، وخلال ما يقارب المئة عام الماضية، شهد حالة من التوسّع، خصوصاً مع إعادة إنتاج الفكر لمفهوم القوة نفسه، فعلى سبيل المثال، باتت طبقة التكنوقراط نخبة مستقلة، في البلدان التي تمتلك صناعات ثقيلة، أو تنتج البرمجيات ونظم المعلومات. يتضمن تطبيق مفهوم النخبة كما هو حاصل في الغرب على عالمنا العربي مسألة إشكالية، لكن الإقرار بهذه الإشكالية لا ينبغي أن يفهم منه أنه محاولة لنسف دور النخب غير الحاكمة في مجتمعاتنا، بل هو سعي لتحديد النخب الفاعلة على نحوٍ أكثر دقة، وتحديد إحداثياتها، والأدوار التي تقوم بها، أو الأدوار التي ينبغي أن تقوم بها، انطلاقاً من الواقع العربي المأزوم، حيث تعيد قوى التأخر إنتاج نفسها بأشكال جديدة.
وعند دراسة دور النخبة، بغية تحديد تأثيرها ومسؤولياتها، ينبغي النظر إلى المنظومة القيمية التي تعبّر عنها، فهذه المنظومة تشير، وبشكل رئيسي، إلى نمط الإنتاج المولّد لقوة هذه النخبة، وتحدّد مدى تأخر هذه النخبة أو تقدّمها، بل ومدى إعاقتها للتطوّر، خصوصاً في الدول التي لا تزال اقتصاداتها تقوم على الريع، مع تسيّد نمط إنتاج مشوّه، وهي الحالة التي تنطبق على معظم الدول العربية، حيث فشل العرب في مسيرتهم المعاصرة من بناء أنظمة اقتصادية تقوم على الإنتاج الحديث، بحيث تكون طبقة الصناعيين قاطرة للتغيير، وليست مجرد تابع للنظام السياسي.
ارتبط مفهوم النخبة في الغرب بصعود الليبرالية كتوجّه اقتصادي- فكري، ثم أخذ هذا التوجه يفرض قيماً جديدة في السياسة والاجتماع، وصولاً إلى منظومة الحقوق، وتحديداً حرية الفرد، باعتبارها ركيزة أساسية في المجتمع الليبرالي، حيث أتاحت الليبرالية في السياسة نشوء نظام ديمقراطي تنافسي، يجنّب المجتمعات الهزّات السياسية العنيفة، ويسمح بمعالجة ما ينشأ من أزمات، في أطر سلميّة.
في الكثير من الدول العربية، قطعت النخبة العسكرية الطريق على نمو الليبرالية، وانقضّت على بعض المكتسبات الليبرالية التي تولّدت خلال الانتدابات، أو في السنوات الأولى للاستقلال، وحرمت المجتمعات من التطوّر الطبيعي الذي يفضي إلى بناء نخبة اقتصادية ليبرالية حديثة، كما أن تبني معظم النخب العسكرية للنظام الاشتراكي أجهض التطوّر الصناعي الذي كان قد بدأ يشقّ طريقه، ويصبح جزءاً مهمّاً من سوق العمل الدولي.
وفي مقابل النخب العسكرية، وتعبيراتها السياسية من أحزاب قومية واشتراكية، وجدت نخب سياسية هزيلة في تكوينها وفي تأثيرها، تشكّلت في إطار ردّ الفعل وليس في إطار الفعل، وقد بدا واضحاً أنها لم تتمكن من قيادة مشروع التغيير الذي أطلقته الشعوب في حراكها ضد الأنظمة والنخب الحاكمة، وبغض النظر عن العوامل الخارجية، وهي بالغة الأهمية، لكن النخب المعارضة لم تمتلك العوامل الذاتية التي تجعلها قادرة على قيادة وإنجاح مشروع التغيير.
المأزق الكبير الذي وصل إليه العالم العربي، يكمن في أحد جوانبه، في نهاية المشروعية التاريخية للنخب الحاكمة، وفي استنفاد قدرتها على تغيير نفسها، والاستجابة لمتطلبات التغيير في مجتمعاتها، كما أنه في غياب نخب معارضة حديثة، وغياب أي سياق موضوعي لتبلورها يصبح السيناريو الأرجح هو اصطدام محاولات التغيير بإشكالية بغياب النخبة، التي يمكن أن تشكل قاطرة للتغيير، من دون أن تذهب نحو خيارات مدمرة لنفسها ولمجتمعاتها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"