السكان وحركة التاريخ

00:22 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

في العام 1968 وصل عدد سكان العالم إلى 3.5 مليار نسمة، وتنبأ عالم الأحياء الأمريكي بول إيرليش في كتابه «القنبلة السكانية» بمجاعات واضطرابات مجتمعية كبرى سيشهدها البشر نتيجة لتلك الزيادة، ولكن بعد ما يقرب من 55 عاماً وصل عدد البشر إلى 8 مليارات نسمة، أي أكثر من ضعف العدد الذي نظر إليه إيرليش متشائماً، ومع ذلك لم يحدث ما توقعه. لقد استطاع التقدم العلمي خاصة في مجال الهندسة الوراثية والأنظمة الصحية أن يواكب تلك الطفرة السكانية، ويقي البشر من تقلبات اقتصادية واجتماعية عنيفة، ولكن لا تزال تحذيرات عديدة هنا أو هناك تربط بين زيادة البشر وتحولات دراماتيكية سنشهدها في المستقبل نتيجة لتقلبات المناخ والهجرة. 

 لم يكن إيرليش أول من ربط بين السكان والموارد بطريقة متشائمة، فهناك توماس مالتوس في بدايات القرن التاسع عشر، عندما حدثت طفرة سكانية ووصل عدد البشر لأول مرة إلى مليار نسمة آنذاك، حيث ذهب مالتوس إلى أن موارد الأرض لن تكفي كل هؤلاء السكان. وبعيداً عن تلك العلاقة الحتمية بين السكان والموارد، بالإمكان القول إن زيادة السكان أهم عامل مؤثر في حركة التاريخ، وذلك بداية من الإنسان الصياد الباحث عن الطعام وحتى الإنسان «المعولم» الذي يعيش ثقافة الاستهلاك ويُكثر من التنقل بين بلدان العالم وراء السياحة أو التعليم أو العمل.

 نحن دائماً ما نفسر الحروب بالأفكار، فنقول بمدرسية إن هذه الحرب أو تلك قامت نتيجة لصراع إيديولوجيتين أو نظامين سياسيين مختلفين ومتصادمين، لكننا إذا دققنا النظر في معظم الحروب والهجرات الكبرى سنجدها نتجت إما عن طفرة في السكان في هذا البلد أو خلل في التركيبة السكانية في بلد آخر، وطوفان المغول والحملات الصليبية وحركة الكشوف الجغرافية واستيطان الأراضي الجديدة والاستعمار الحديث أمثلة دالة على ذلك، صحيح أننا لا نستطيع إهمال الأفكار تماماً، ولكن العنصر الحاسم على الأرض كان لبلاد تفيض بسكانها، الأمر الذي أدى إلى ضرورة الخروج إلى بلاد أخرى. 

 مع انتهاء الصيغة التاريخية العنيفة لحراك البشر خارج الحدود الوطنية نتيجة لشح الموارد، أصبح السكان مشكلة محلية تخص كل بلد، دولة مثل الصين مثلاً استطاعت أن تستثمر في السكان وتتحول إلى مصنع العالم، وهناك مجموعة أخرى من البلدان تعاني من تراجع معدلات الخصوبة وتقلص نسبة الشباب وارتفاع أعداد كبار السن، ولكن هذه البلدان تستطيع تجاوز أزماتها بفتح باب الهجرة أو الاستخدام الأمثل للروبوتات وتقنيات الذكاء الاصطناعي. وتبقى الأزمة والسيناريوهات الأسوأ في البلدان الفقيرة والمزدحمة حيث يشكل السكان هناك إشكالية كبرى تعيق التنمية والازدهار والتقدم، بل وتؤدي إلى اضطرابات اجتماعية وتغيرات سياسية متسارعة نتيجة لعدم الاستقرار.

 في كل هذه الحالات كَتَب البشر التاريخ وشكلوا الحدود ورسموا الخرائط، وكانوا السبب الرئيسي في حركة الأحداث إيجاباً أو سلباً، والمستقبل وحده سيجيب عن سؤال: هل الطفرة السكانية الراهنة والمتوقعة خلال السنوات القليلة المقبلة ستكون نعمة أم نقمة؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/he2zvcnx

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"