النسيان لا يُنسى

5 مايو 2023

22:54 مساء

قراءة دقيقتين

آرون كوبلاند

إيمان الهاشمي

دعوني أخط بعض أهم الأفكار الفلسفية الرائدة، كي تظهر معالم الفكر التحليلي بشكل مبسط وتعم الفائدة، حيث إن أغلب الأمراض النفسية والعقد الداخلية، وربما الاعتلالات العقلية السائدة، تنتج عن شدة الفهم وزيادة الإدراك وتكاثف كمية اليقظة الزائدة، لكن ماذا لو يُصاب القلب بفقدان الذاكرة أو بداء الزهايمر وينسى فلا يعود يتذكر ما قد مضى أو ما قد أمسى؟ أتراه حينها يقع في حبٍ مختلفٍ أو جديد، أم أنه سيحب مَن لم يستحقه من جديد؟ عموماً، آفة العلم النسيان، وآفة الألم عدم النسيان، لكن هل يمكن لملحنٍ ألّا يتذكر ألحانه، وألّا يذكر مكانته أو حتى مكانه، وربما اسمه وعَمَله وعِلمه وزمانه؟ فأحياناً لا يستطيع الواقع أن يتذكر الخيال، وأحياناً لا يستطيع الخيال أن ينسى الواقع! تذكروا هذا جيداً.

هو آرون كوبلاند الملحن البارع والموزع البارز والعازف الماهر والكاتب الإبداعي والناقد، صاحب البال الطويل والصدر الرحب والفؤاد الطيب غير الحاقد، ولعله لهذا اتفق العالم ككل بأنه أبرع موسيقي أنجبته الولايات المتحدة الأمريكية، فقد وُلد في بدايات العصر الحديث ليعزف بأنامله المبدعة أجمل الروائع الكلاسيكية. كما ابتكر أعمالاً هامة وخالدة ساعدت في تحرير بلاده من قوالب النوتات الأوروبية التقليدية، والتي بدورها ساهمت في تطوير ملامح الهوية اللحنية الوطنية. ولا ننسى أنه شارك في سينما «هوليوود» بموسيقاه التعبيرية أي التصويرية، وأيضاً كتب «تنويعات للبيانو» في عدة أعمالٍ تميزت بالجمال المهيب والحيوية، وكذلك العديد غيرها من الأعمال المنفردة «السولو» التي تتطلب الكثير من المهارات الفردية، وفي عام 1925م عرضت سيمفونيته لأول مرة برعاية جمعية نيويورك للسيمفونية. وهكذا استمر كوبلاند في تطوير الإبداع واستثمار الابتكار، إلى أن حقق النصر الأكبر بحصوله على جائزة «الأوسكار»، وأيضاً فوزه بالميدالية الوطنية للفنون، وكأنه وجد في نفسه الكنز المدفون، وكذلك نال وسام الحرية الرئاسي، وعدة جوائز أخرى في زمنٍ قياسي.

قاد الأوركسترا في أعمال الموسيقيين الآخرين بشغفٍ وفهمٍ كبير، وشجع المواهب كلها أينما وكيفما رآها في الصغير والكبير، وتعامل بأخلاق واحترامٍ شديد مع جميع المعجبين، ولم يرد يوماً على أقوال الكارهين وأفعال الحاقدين، ولعله كان يعمل جاهداً لكي ينسى جروحه، فنسي كل شيء تدريجياً حتام نسته روحه، فقد توفي آرون كوبلاند بسبب مرض الزهايمر اللعين، وذلك في عمر التسعين، فعاش بالضبط من سنة 1900 إلى 1990.