عادي

أحمد أمين المدني.. ريادة شعرية خليجية مبكرة

14:17 مساء
قراءة 4 دقائق
أحمد أمين المدني

الشارقة: يوسف أبولوز

تذكر مصادر حياة الشاعر د. أحمد أمين المدني 1931-1996 أن أوّل بيت شعر قاله كان: «كلُّ الأماكن فيها القلبُ ترحانُ/ إلاّ دبي ففيها القلب فرحانُ»، ويقال، كما جاء في تحقيق أعماله الشعرية الكاملة الصادرة عن اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات أن أحد شيوخ العلم توسم فيه قول الشعر، فسأل هذا الشيخ والد الشاعر أن يحثّ ابنه على قول الشعر مراراً، ففاضت قريحته بهذا البيت، وسوف تكون هذه «القريحة» موهبة أصيلة في ذات شاعر يعتبر من روّاد الحداثة الشعرية العربية الجديدة، وعلى الأقل في رأيي الشخصي إذا ما عرفنا أن المدني درس في العراق، والتقى هناك بدر شاكر السيّاب، وخالط رموز الحداثة الشعرية والقصصية هناك.

لفت المدني إلى أن طارق عزيز وزير خارجية العراق في عهد صدام حسين كان يكتب القصة القصيرة، وقد التقاه في بغداد، ما يعني عملياً وواقعياً أن المدني هو أحد شعراء بيئة الحداثة في العراق، وإن كان من الناحية الزمنية أقل عمراً من الروّاد الكبار: السياب والبياتي، ونازك، لا بل يقول المدني في مقدمة تاريخية بانورامية لأعماله الشعرية إن رابطة من الأخوّة والصداقة جمعته بالكثير من شعراء العراق حين كان يواصل دراسته في بغداد، ويقول إنه شهد ميلاد دواوين كثيرة في تلك الفترة، وقد سمع بعضاً من شعر تلك الدواوين من مؤلفيها أنفسهم، كما يقول، قبل أن تظهر منشورة في كتب، وكان ذلك في نهاية الخمسينات وبداية الستينات من القرن العشرين.

أصدر المدني ثلاث مجموعات شعرية: حصاد السنين 1968، أشرعة وأمواج 1973، عاشق لأنفاس الرياحين 1990، وفي عام 2001 قام الباحث الإماراتي أحمد محمد عبيد بجمع القصائد المبعثرة للمدني في أماكن متفرقة وأصدرها في عام 2001 في مجموعة أعطاها اسم «قصائد ضائعة لأحمد المدني».

  • أشباح

في هذه القصائد التي جاءت في نحو 550 صفحة من القطع الكبير يراوح المدني بين شكلين تقليديين في الشعر العربي: القصيدة العمودية الخليلية أو البيتية، والقصيدة التفعيلية، ولم يقترب المدني البتة من قصيدة النثر، شأنه في ذلك، شأن شعراء روّاد قصيدة التفعيلة في العراق.

غير أن المدني لم يكن نتاج ثقافة التجديد الشعري في العراق فحسب، بل هو درس في كامبريج والسوربون، وفي أثناء دراسته في بريطانيا تعرّف إلى ارنولد توينبي والتقاه، كما التقى ت.س.اليوت، وبرتراند راسل، وغي.إم. فورستر، غير أن كل هذه الشبكة من العلاقات والدراسة الجامعية والقراءات لم تجعل منه شاعراً خارج كلاسيكيته المفرطة والتي نقرؤها، بل ونسمعها في أعماله الشعرية الكاملة، بل أكثر من ذلك، يبدو كما لو أن المدني جرّب كتابة التفعيلة على خجل، فها هو في مقدمته يرجو من القارئ الذي سمّاه «القارئ المتنور» أن يبعد ما سمّاها «أشباح الغرابة» عنه حين يجد قصائد تفعيلة في هذا الديوان.

على أي حال للمدني موقف ثقافي وجمالي من كسر عمود الخليل، ويتمثل هذا الموقف في قوله: «إن كسر نطاق أسلوب الشطرين منح الشاعر الحديث حرية كبيرة في التعبير عن تجربته الشعرية، ولعل القافية الموحدة تعينه في بعض الأبيات لالتقاط المعنى المجرد، ولكن تفقد أهم عناصر الفن الشعري من ظلال وموسيقى..».

لقد بقي المدني كلاسيكياً حتى وهو يكتب تفعيلة، فليست كل قصيدة تفعيلة هي قصيدة حديثة متجاوزة العمود الخليلي، لا بل هناك شعر تفعيلة موغل في كلاسيكيته على نحو أكثر تطرفاً خليلياً من العمود الشعري، وفي شعر المدني هذا الذي بين يدينا الآن، ونقرأه، برؤية جديدة بعد أكثر من نصف قرن من الزمن.. في شعر المدني العمودي والتفعيلي انتماء مركّز إن جاز القول للكلاسيكية الشعرية الصرف، ولكن تاريخياً يظل صاحب «أشرعة وأمواج» علماً من أعلام الثقافة الشعرية العربية في ستينات القرن العشرين.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو.. لماذا لم يكن للمدني في منطقة الخليج العربي نجومية تشابه أو توازي نجومية روّاد التجديد الشعري في العراق؟، صحيح أنه كتب التفعيلة، وصحيح انه تعرّف قرائياً وشخصياً إلى عدد من رموز الحداثة الأوروبية، ولكن رغم كل ذلك بقي المدني في دائرة شعرية محدودة لم تكن باتساع دوائر الكثير من الشعراء العرب، في العراق ومصر والشام.

الإجابة عن هذا التساؤل اجتهادية بالطبع، فإن محدودية المدني تعود إلى طبيعة بيئة الخليج العربي الثقافية الشديدة المحافظة في العقود التي سبقت الحداثة الشعرية العربية «الثلاثينات، الأربعينات، الخمسينات»، كما أنها بيئة ذات ثقافية دينية، لغوية، معجمية «تعليم المطاوعة» قبل التعليم النظامي.

لهذه الأسباب، ربما، بقي المدني مراوحاً بين ثلاث مجموعات شعرية، أو أكثر، في إطار شعر رومانسي تماماً، اللغة تقليدية، والصور محكومة إلى شروط النظم التي يفرضها الوزن، وحتى في حالة كسر هذه الأنساق الوزنية يظل المدني هو المدني في الحالين شاعر العمود الخليلي بامتياز.

  • روح

بين رومانسية الحب ورومانسية اللغة، بين ما هو اجتماعي، إنساني، وجودي أحياناً، بين ما هو غنائي أيضاً وبين ما هو حلمي.. يتماوج شعر د. أحمد أمين المدني، ويعيش تحديداً في الذاكرة الرومانسية، القلبانية، واللغوية.

روح الخليج، تظل أيضاً حية في هذه الذاكرة وفي هذه اللغة:

«وكانت السماء

خضراء في لون المروج

وصفحة الخليج

فيروزة، عبر المدى تموج.. وبين هذه وتلك قد لمحت

في صبح يوم مشمس نضير

سرباً من الطيور قد رأيت...

روح الحب، أيضاً، مشغولة هنا بلغة رومانسية:

رفيق البنفسج عبر الضُّحى

يُعوم في لونه الريق

مروج الشروق يمر الربيع

عليها ببيرقه الأزرق

تذوب الرؤى في مدى حال

وتشرق في المزهر المورق

ترانيم عشق.. جداول شوق

من الغيب تنصب في مطلق

تموج بروحي.. ألوانها

مخضبة بدم الأعرق

لكي لا تظلم المدني من قراءتك الجديدة له بعد نصف قرن على تلك الشعرية الستينية الكلاسيكية الرومانسية، عليك أن تضع نفسك أنت في جو تلك المرحلة، ولو مجازياً أو رمزياً، فتلك كانت مرحلة شعراء الحلم، والزهور، والعطر، والربيع، والعشق، والترانيم، والرياحين والأغنيات العابقة برائحة السوسن والزيزفون.. وبالطبع تغيّر الحال، وتغيّرت الأحوال، فأنت اليوم قارئ النص الشعري الذي يكتبه الذكاء الاصطناعي حيث كل شيء «فروزن» بما فيه القلب.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2daxrkm5

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"