أسرار النمو والصندوق الأسود

21:37 مساء
قراءة 3 دقائق

د. عبدالعظيم حنفي *

من السهل أن نرى إخفاقات الرأسمالية الحديثة وقد تجسدت في ازدياد عدم المساواة، وكساد ما بعد الأزمة المالية، وعدم كفاية الاستجابات لمواجهة تغير المناخ، ثم جائحة «كوفيد- 19» ولا تقدم الأحزاب السياسية ثنائية القطب سوى فرصة الاختيار بين رؤيتين مختلفتين لدولة أقوى، وبدا لبعض دوائر الاقتصاد أن هذا هو الوقت المناسب لتوجيه ضربة قاضية للشركات التكنولوجية العملاقة. في أجواء هذا السياق ترى إحدى الدراسات الاقتصادية الحديثة أننا كنا ننظر لهذا الأمر بصورة خاطئة. ففي نموذج الاقتصاد الكلاسيكي المحدَّث الذي يتسم بقوة تأثيره، يوجد مصطلح غامض يعرف باسم «الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج» هو الذي يتحكم في مدى كفاءة الاقتصاد في تحويل المدخلات مثل رأس المال والعمالة إلى مخرجات، وتقبع أسرار النمو طويل الأجل في هذا الصندوق الأسود الذي يلفه عدم الوضوح. وتستند تلك الدراسة الاقتصادية إلى برنامج للبحث الأكاديمي استمر على مدار عقود طويلة استعان به مؤلفو تلك الدراسة، إلى جانب مؤلفين مشاركين وطلبة، في فتح هذا الصندوق الأسود. ويرى محللون أنه على نهج الاقتصادي جوزيف شومبيتر الذي ينتمي لبدايات القرن العشرين، يؤكد مؤلفو تلك الدراسة أن النمو يتحقق عندما يبتكر رواد الأعمال، فيخلقون سلعاً جديدة ويرفعون مستوى الإنتاجية لكنهم في الوقت نفسه يتسببون في هدم الوظائف والشركات القائمة. ولو أن التاريخ الاقتصادي لتوماس بيكيتى في كتابه «رأي المال والايديولوجيا» هو قصة «أنظمة عدم المساواة»، فإن التركيز في تلك الدراسة الاقتصادية ينصبّ على النمو ومنافعه، وبفضل نمو الإنتاجية المستمر، شهد العالم زيادات ملحوظة في مستوى الرفاهية منذ الثورة الصناعية. وبفضل النمو في الصين والهند والعديد من الاقتصادات النامية الأخرى، انخفضت معدلات عدم المساواة العالمية. وبالنسبة لتلك الدراسة فإن ازدياد النمو وتحسّن جودته، هو الحل لمشكلاتنا الراهنة. ونموذج الهدم الخلّاق يفسر كيفية تحقيق ذلك؛ فأسواق الصادرات تكافئ الأكثر ابتكاراً، بينما تجلب الواردات والاستثمار الأجنبي المباشر أفكاراً جديدة وتجلب المنافسة التي تحفز أفضل الشركات على مواصلة رفع كفاءتها. وتوفر الأسواق المالية النشطة رأس المال الذي تحتاج إليه الشركات الجديدة الناجحة للازدهار والتوسع. ومكافحة تغير المناخ تستدعي القيام بثورة تكنولوجية خضراء. وفي هذا السياق ينبغي تقبل قدر كبير من انعدام المساواة، بل الاحتفاء به باعتباره ثمناً لتحفيز الابتكار. ويمثل نموذج الهدم الخلاق كذلك عاملاً مساعداً لتوجيه مسار السياسات الاقتصادية. فينبغي – وفق الدراسة- للحكومات حماية براءات الاختراع، وتجنب الإفراط في فرض الضرائب، وتأمين الخاسرين من جراء الجزء الهدام في عملية الهدم الخلاق وتزويد أسواق العمل المرنة بسياسات سوق العمل لمساعدة المواطنين في العثور على وظائف جديدة. ودعم الأبحاث الأساسية، وينبغي كذلك أن تتجنب استدراجها لدعم مبتكري الأمس وهم يحاولون ترسيخ مركزهم.

ولا شك أن تلك الدراسة تحاول توجيه الاهتمام الاقتصادي إلى الاتجاه الصحيح لتحقيق النمو. وتطرح حججاً تتسم بالثراء والقوة ويمكن الاسترشاد بها لفهم الرأسمالية. بصورة أفضل. ولكنها تواجه بكثير من التساؤلات المشروعة والمنطقية من قبل بعض النقاد مثل هل سياسات سوق العمل «النباتية المرنة» كافية بالفعل لتلبية احتياجات الخاسرين من جراء الهدم الخلاق؟ وهل تواجه الصين «فخ الدخل المتوسط» المتمثل في إخفاق التحول إلى النمو المدفوع بالابتكار، كنتيجة جزئية للاختلال بين قوى الدولة والسوق والمجتمع المدني وفقاً لما تشير إليه تلك الدراسة ؟ كما يرون أن عبارة الهدم الخلاق ليست بلا شك العدسة المشجعة تماماً لفهم القضية.

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3nbcb9ua

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"