عادي

تغير المناخ.. غرق وغليان

23:58 مساء
قراءة 4 دقائق
الدخان يتصاعد من حريق هائل في جزيرة رودس اليونانية (رويترز)

د. نيللي كمال الأمير

لا يكتمل بناء التعامل مع قضية متشابكة بحجم تغير المناخ دون الوقوف على النشاط البشري المسبب وحجم الخسائر أو النتائج المباشرة والآثار المتوقعة، أي دون الربط بين أضلاع المثلث: الماضي والحاضر والمستقبل.

وقد تابعنا خلال الأيام الماضية، تعرض بعض الدول من قارات مختلفة لموجات عنيفة بل مدمرة من الأمطار والحرائق التي جاءت كجزء من الحالة الكونية الاستثنائية من ارتفاع درجة الحرارة بمعدلات غير مسبوقة، «ظاهرة النينو». فما هي تلك الموجة وما آثارها وكيف يمكن التعامل معها ؟

عانت دول أمريكية وأوروبية وآسيوية، أزمات طبيعية طارئة تمثلت في موجات من الأمطار الغزيرة التي تحولت إلى فيضانات مدمرة، بينما على الجانب الآخر، عانت دول ثانية موجات من اشتعال الغابات لتشكل تلك الأزمات التي لا يمكن وصفها إلا ب«الطبيعة»، ولكنها تعود إلى أسباب بشرية، علامة استفهام كبرى حول جدوى وكفاءة الإدارة الدولية الحالية لآثار تغير المناخ.

على سبيل المثال، أسفرت الأمطار الغزيرة في كوريا الجنوبية عن فيضانات وانهيارات أرضية مدمرة، وبخلاف الخسائر الاقتصادية، كانت الكلفة على مستوى الإنسان أكبر بكثير، حيث قتلت تلك الأمطار أكثر من 30 شخصاً، بخلاف المفقودين. وفي كولومبيا راح 15 شخصاً وأصيب 6 آخرون بعد انهيار أرضي هائل، في يوليو الماضي، كما دمر 22 منزلاً. وتسببت الأمطار في اضطراب شديد في حركة السفر. وأمريكياً أيضاً عانت ولاية كنتاكي بالولايات المتحدة أمطاراً غزيرة وقياسية، تسببت في حدوث فيضانات شديدة في المناطق الغربية من الولاية، ووصفت بأنها الأعنف في التاريخ بالنسبة إلى كنتاكي.

ولا تعبر تلك الأمطار المدمرة إلا عن حالة من الاختلال في حركة التيارات الهوائية الهائلة التي نطلق عليها (موجات الكواكب)، حيث إن انبعاث غازات الاحتباس الحراري بدأ يؤثر في عملها، ويعرقل انتشارها وحركتها، ما يؤدى إلى الهطول الغزير للأمطار.

وتشهد مساحات واسعة من جنوب أوروبا ارتفاعاً ملحوظاً في درجات الحرارة واشتعالاً للنيران، ما دفع دولاً كاليونان إلى إعلان حالة الطوارئ وإخلاء السائحين من جزيرة رودس، مع اضطرار السلطات الإيطالية والسويسرية إلى التصدي لأزمات مشابهة، بخلاف ذلك، عانت دول عربية كالجزائر، حرائق تسببت في وفيات بالعشرات. ووفقاً للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية، فإن موجات الحرارة ستصبح أكثر حدة في السنوات المقبلة، وإن أنماط الطقس المتطرفة تسلّط الضوء على الحاجة إلى مزيد من الإجراءات المناخية.

التوازن البيئي

يحترق أكثر من 370 مليون هكتار من الأراضي كل عام، ما يؤدي إلى إطلاق أكثر من 1.8 مليار طن من غازات الاحتباس الحراري. وقد نشهد زيادة عالمية في حدوث الحرائق الشديدة بنسبة تصل إلى 14% بحلول عام 2030، و30% بحلول عام 2050، و50% بنهاية هذا القرن. أما موجات الأمطار الغزيرة فهي تعكس حالة تدهور النظم البيئية الطبيعية وتعقد أزمة تغير المناخ، حيث تزيد موجات الأمطار شمالاً فيما تزداد موجات الجفاف جنوباً.

إن تواتر وقوع الأزمات أحد أهم مكامن خطورتها، فقد تعرضت الولايات المتحدة إلى الفيضانات الكارثية في يوليو 2022، قبل أن تتعرض لها في يوليو الماضي، وإذا أخدنا بعين الاعتبار الزيادة في حدة موجات الأمطار، سندرك كيف أن بضعاً من تلك الأزمات يمكن أن ينسف، على المدى المتوسط، كثيراً من الجهود الإنسانية المبذولة لخفض الانبعاثات، في ما يعرف بالاقتصاد الأخضر، وهنا يكفي أن نشير إلى أن حرائق الغابات تسهم في أكثر من 80% من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، لكنها في الوقت نفسه تسلّط الضوء على أهمية التعامل مع دور النشاط البشري في اندلاع تلك الأزمات. فرغم أن بعض الحرائق تحدث بشكل طبيعي، لكن البشر يتسببون في 90% منها على الأقل، يضاف إلى ذلك، تداخل الآثار عند الحديث عن تغير المناخ، حيث من المخاوف أن يؤدي ارتفاع درجة الحرارة الشديد إلى نشر الأمراض.

ما العمل؟

أظهرت الأزمات الطبيعية التي اندلعت مؤخراً، أن البناء الحالي للتعامل مع تغير المناخ يحتاج إلى «فك وتركيب»، استجابة لاتساع نطاق الأزمة وخسائرها المتزايدة، الأمر الذي يستدعي التحرك مؤسسياً وتشريعياً وبحثياً. ويتطلب ذلك في المقام الأول مزيداً من التشبيك بين دول العالم، واعتبار المواجهة البيئية أولوية تسبق العلاقات السياسية أو الاقتصادية، كما حدث على سبيل المثال من تنسيق في زمن الكورونا عندما اعتبرت «دبلوماسية العلوم» أولوية تسبق التوجهات السياسية للدول. كما أننا نحتاج إلى مزيد من البرامج الدراسية في مجال إدارة الأزمات والكوارث ومزيد من المراكز البحثية لتطوير أبحاث الإنذار المبكر نظرياً وميكانيكياً، ونحتاج كذلك إلى تطوير مناهج في «التربية البيئية»، لتنشئة جيل يفهم طبيعة الكوارث التي يتسبب فيها الإنسان والتي تلوث البيئة، حتى يتعلم المطلوب للاستعداد والاستجابة والتعافي من الكوارث التي تنشأ عن الإخفاقات التكنولوجية مثل الانفجارات. نحتاج كذلك إلى التكامل والشمولية في رسم السياسات، كأن يتم الربط بين مواجهة الجوع وتعزيز الأمن الغذائي من ناحية، والعمل على مواجهة ارتفاع درجة حرارة الأرض من خلال زيادة الغطاء الشجري من ناحية ثانية، وهنا يأتي الشق التشريعي بتغليظ عقوبات التعدي على الغابات، وتشجيع زيادة الغطاء الشجري، وربط ذلك بحوافز اقتصادية تتعلق بالضرائب مثلاً.

أما مؤسسياً، فتشير الأزمات الأخيرة إلى أهمية وجود كيانات دولية تستطيع دعم الدول المتضررة، ولحسن الحظ، تم الإعلان مؤخراً (مايو 2023)، عن المركز العالمي لإدارة الحرائق من قِبل المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة، بعد أن كان التنسيق الدولي يتمركز في المؤتمر الدولي لإدارة الحرائق، وهو يجتمع كل أربع سنوات، ويسعى المركز الجديد لمناقشة التطورات العالمية وأفضل الممارسات في مواجهة الحرائق، لاسيما الغابات. وسيركز على تبادل البيانات وبناء القدرات وتقييم مخاطر الحرائق والإنذار المبكر ودعم السياسات. ومن المتوقع أن يلقي تفعيل تلك المستويات داخلياً ودولياً، بظلاله على المستوى العالمي للبيئة، ولو بصورة تدريجية.

إذا كانت دول العالم تعتبر المشاركة في الجهود الدولية لمواجهة تغير المناخ (كاتفاقية باريس) فرض كفاية، فقد جاءت تلك الأزمات الطبيعية «المجمعة» لتخبرنا بأن التحرك المنظم والجاد للتعامل مع تغير المناخ بشقيه التكيف والمواجهة قد بات فرض عين.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2s4h6p5f

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"