عادي

الجسر..الضفة الثالثة للحياةهناك مدن بأكملها عُرفت بجسورها التاريخية والحداثية

00:04 صباحا
قراءة 10 دقائق
1
1
1
1
1

الشارقة: محمد إسماعيل زاهر
الجسر.. عبور، تحول، تغير، انتقال من مكان إلى آخر، ومن مشهد إلى مشهد ثانٍ، ومن حالة إلى حالة مختلفة كلية.

الجسر فكرة مرتبطة بالمقبل، بالتحديث، بالحداثة وما بعدها، ربما نشاهد في الأفلام التاريخية أو الخيالية جسوراً قديمة مقعرة توحي لنا بالنزول.. بالسقوط.. بالغرق أو التحطم، وعندما تهتز تتسارع نبضات قلوبنا مع البطل الذي يوشك أن يسقط في الهاوية، لكنه غالباً ما ينجو، فحتى الجسر المتآكل يمنحه قبلة الحياة.

الجسر وسيلة وصل، وفصل في الوقت نفسه، لهفة لقاء ووجع رحيل، ووقت للنزهة والتأمل، مكان شاعري للمحبين، وفرح لأنواع عدة من الاحتفالات، ورمز تاريخي لحالات إعدام كان يحلو لبعض المستبدين في التاريخ تنفيذها أعلى الجسر.

لا معنى للجسر لمن يعاني الضجر، وهو إغراء مطلق لمن يعتزم على الانتحار، وروتين يومي لكي نصل سريعاً إلى العمل، ومشهد افتتاحي خلاب لمن يسير عليه للمرة الأولى، والذي ينتابه الشغف لما سيراه بعد نهاية الجسر، وكأنه عابر في الحلم.

الجسر حد بين الدول وضفاف الأنهار والخلجان والبحار الصغيرة، وهو في أشكاله ووظائفه كافة يقوم بأدوار سياسية واجتماعية وحضارية تؤثر بقوة في حياة ملايين البشر الذين يعيشون على جانبيه. الجسر اختيار مفضل لشركات الإعلان لإبراز منتجاتها الجديدة، حيث تضع علاماتها التجارية بحرفية إما على أعمدة مستقيمة على اتجاهي الجسر، أو على جوانبه من الخارج، فالمكان الجديد الذي ندخله لابد أن يفصح عن نفسه، وهي الإعلانات ذاتها التي نشاهدها ونحن نعود من الجسر، وكأن المعلن يطاردنا في الحالتين، هنا يسير المعلن على خطى السينما والتي حولت الجسر إلى مكان مثالي للمطاردة.

الجسر حصن يعزل دولة متقدمة عن أخرى متخلفة، ورمز لثقافة قوية تكتفي بذاتها، وأخرى على الضفة المقابلة تتطلع بخوف وحذر أو تستفيد من الآخرين بوعي مفتوح، وفي الحالتين هو مدار للشك والارتياب، ومحاولات دؤوبة ل«تجسير» الفجوة بين الطرفين. الجسر أول مكان يقصف في الحرب، وكأن المكان إنسان يسعى العدو إلى الانتصار عليه من خلال تفكيك أوصاله، الجسر تربص دائم بين الأطراف المتنازعة أو الجيوش التي تتبادل أسراها.

في أعلى الجسر يمر أصحاب الياقات البيضاء، أما في أسفله، وخاصة في تلك الآلاف من الجسور «الخفية» في المدن الصغرى أو القديمة، تعيش فئات من المهمشين.. فقراء وأصحاب مهن رثة وأبناء شوارع، باعة متجولين، أو عاطلين، تجار مواد رديئة أو ممنوعة، يعملون و يعيشون ويبنون أكواخهم أو عششهم المتهالكة حول أعمدة الجسر الصدئة، يأكلون ويشربون ويحبون في صمت، ولا يلتفتون إلى الصخب في الأعلى، ف«الحياة» ليست في قائمة أولوياتهم، الجسر في حالتهم ثبات مطلق، زمن ساكن يشهد على تعاستهم والتي تتزايد مع «قدم» الجسر، فهذا القدم نفسه هو ما يهبهم «الحياة»، و«البؤس»، فلا مكان لهم أسفل الجسور الجديدة والحيوية والمركزية.

الجسر عمارة، تتعدد مواد بنائه: حبال.. أخشاب.. أحجار مختلفة.. حديد صلب.. زجاج، فنون وزخارف و كتابات على شواهد أو خربشات بشر بالقلم أو «السبراي».. هنا يتحدث لسان الجسر بفصاحة مرئية ليدلي بشهادته على الزمن، فصاحة تخترق عيوننا ونحن نعبر فوقه أو بجواره أو تحته، ولكل عبور زاوية نظر وحالة نفسية.

نظرة طائر

الجسر تجاوز لنهر أو بحر، أو نظرة طائر محلق أعلى تقاطع طرق أو فوق هاوية سحيقة، وكأن الإنسان الترابي، وهو يسبح ويطير لا يستطيع إلا أن يحتفظ بقبس من أمه الأرض.

الجسر حدود بين قارتين، الأولى لا تريد أن تندمج مع الثانية أو تتماهي معها أو حتى تقاربها، هو صلة فصل أبدية بين الشرق والغرب، في كتاب «الجسر» يذهب بيتر بيشوب إلى جسر فولاذي بسيط مقام فوق نهر بوج في شرقي بولندا أصبح أقصى نقطة في حدود الاتحاد الأوروبي، وهو ما سنلمحه في روايات أخرى عالجت تلك المنطقة وتناولت جسوراً كانت أداة فصل حادة بين عالمين لم يلتقيا في الظاهر، لكن هل تصح هذه الحقيقة إذا دققننا في عمق الأمور؟ يحمل هذا الجسر وفق بيشوب أملاً في حياة أفضل داخل الاتحاد الأوروبي، أي أن الجسر يحمل قيمة التغيير في داخله، أو هو بمثابة ضفة ثالثة للحياة.

هناك مدن أيضاً شهدت طفرات حداثية في العمارة والاقتصاد وشكل الشوارع نتيجة للجسور، لقد غير جسر بروكلين من شكل مدينة نيويورك، وجسر ووترلو من لندن، وهكذا جسور باريس، فالجسر منح تلك المدن قدراً كبيراً من هويتها وفق بيشوب، فمدينة مثل بودابيست مثلاً لم تكتسب أهميتها كعاصمة للمجر إلا ببناء جسر «سيتشيني» المعلق بين بلدتي بودا وبيست،، لم يربط ذلك الجسر بين هتاتين البلدتين المهملتين وحسب، لكنه رمز إلى وحدة الأمة المجرية، ولنا هنا أن ننظر في مدننا العربية.. تلك العواصم التي شكل منها الجسر المدينة- الدولة، جسور نهر النيل في مصر والسودان، حيث القاهرة تتكون من عدة مدن يربط بينها النهر والحالة نفسها تنطبق على الخرطوم.

وهناك جسور الصداقة مثل، جسر نهر يالو بين الصين وكوريا، وجسر آخر بين نيبال والتبت. الجسور أيضاً بإمكانها أن تعيد التفكير في طوبوغرافيا الأرض، مثل تلك المحاججة التي يوردها بيشوب، فمتى لا تكون الجزيرة جزيرة؟ ويورد إجابة نسبت إلى المفوضية الأوروبية مؤداها أن الجزيرة لا تعد جزيرة عندما يربطها بالبر الرئيسي أحد الجسور.

لا يمكن تخيل دولة مثل الولايات المتحدة من دون جسور لا نهاية لها، هناك وفق بيشوب يوجد أكثر من نصف مليون جسر، وكانت كل هذه الجسور نتيجة للتحولات الحدثية، ففي عام 1900 بلغ عدد المركبات ذات المحرك المسجلة في الولايات المتحدة 8 آلاف مركبة، ارتفع هذا العدد إلى 4 ملايين في عام 1916، ثم إلى 25 مليون في عام 1925، وبحلول منتصف القرن كانت هناك مركبة لكل أسرة، وكان لابد أن تنتشر الجسور نتيجة لتضخم الطرق والمدن.

تشتت وتعاسة

يكتب إيفو أندرتش في روايته «جسر على نهر درينا» قائلا: «خلق الله الأرض مصقولة ومتصلة، وفي غاية الروعة، فكره الشيطان ذلك، ففكر كيف يفسد على البشر سعادتهم، فخدش الأرض بقوة، فتشققت القشرة الصلبة الملساء، ونشأت الوديان والجبال والهضاب، وجرت المياه في البحار والأنهار، فابتعد الأخ عن أخيه، والأب عن بنيه، والأم عن أولادها، وأصابت التعاسة بني الإنسان، وتشتت البشر، فأرسل الله الملائكة لإصلاح ما أفسده الشيطان، فوضعت أجنحتها النورانية، والطويلة، والقوية ليعبر عليها الإنسان من مكان إلى آخر، والذي سرعان ما تعلم الدرس، فشيد الجسور، وعاد البشر، ليعيشوا في جماعات، فوجدت السعادة لها متسعاً في الأرض»*.

عاش جسر إيفو أندرتش من عام 1517 وحتى عام 1914، جسر شيده الوزير الأكبر محمد علي باشا على نهر درينا في بلدة فيشيغراد البوسنية، هذا الوزير اختطف طفلاً من إحدى القرى القريبة من البلدة ورحل إلى البلاط العثماني، ولُقن مبادئ الإسلام وربي ليكون في خدمة السلطان، وترقى حتى وصل إلى هذا المنصب الرفيع. في طفولته ظلت أمه تسير وراء الجنود الذين اختطفوه، تصرخ عليه بلوعة.. تقول له بقلب يائس: لا تنساني، فجأة تختفي الأم من المشهد، فالجنود- خاطفي الصغار استقلوا المركب للعبور إلى الضفة الأخرى من نهر درينا، لكن المشهد لم يغب عن ذهن الصبي، لا يخبرنا أندرتش في روايته- كتابه «جسر على نهر درينا»، بدوافع الوزير الأكبر لبناء هذا الجسر، والأنفاق عليه بسخاء، لكن هذا وصفه لمشاهد الأمهات الباكيات وهن يودعن أطفالهن، يجعلنا نرجح أن محمد علي بنى الجسر وفاء لصلة رحم بأمه الذي قطع النهر عنه نظراتها الحنونة لمسافة أطول.

محمد علي باشا مصاب بندبة غائرة وبارزة في صدره وكأنها تشقه إلى نصفين، ولذلك دلالته، هو صبي مسيحي، لا يخبرنا أندرتش بجنسيته، ربما يكون غجري.. مجري.. روماني..صربي.. اختطف لتتغير هويته وانتماءاته وقناعاته المستقبلية، يحسن إسلامه، ويعرف بإخلاصه للسلطان وبعدالته وبحبه للخير، ويُقتل وهو يفتتح أحد المساجد العثمانية الفخمة، بضربة سكين أصابت الندبة تماماً.

بخلاف هذه الرمزية التي يسعى من خلالها أندرتش لأن يشير إلى مختلف الثنائيات عبر فكرة «الجسر»: «الشرق- الغرب، الإسلام- المسيحية، تركيا- أوروبا، الضفة- الضفة الأخرى، البقاء- الرحيل»، فإن الرواية- الكتاب ملحمة سردية مكتوبة بحس إنساني عالي المستوى، لا يوجد بطل فيها، أو شخصيات تنمو، أو صراع متصل بين بشر، أو قصص مطولة عن عائلات.. كل البشر في مؤلف أندريتش عابرين، والجسر هو الباقي الوحيد، شاهد على المحبين والمنتحرين، الثوار والمتمردين، الكلاسيكيين والحداثيين، البوسنيين والأغراب، السادة والعبيد... ومن خلال كل هذه الوجوه لا يمكننا أن نلمح جسراً خالداً وحسب، لكنه جسر إنساني أيضاً، يكتب عنه أندرتش وكأنه يحاوره ويسائله، يغضب منه أحياناً، ويقسو عليه في أحيان أخرى، تصيبه الحوادث التي تمر عليه بالأسى، لكنه في جميع الحالات يحب الجسر، يتحدث أندرتش بلسان سلالة نادرة، ينتمي إليها، إلى قلة من البشر تؤنسن الأشياء من حولها وتقيم معها علاقة استثنائية.

خفة أثيرية

يتحرك أندرتش بخفة أثيرية لا يحتملها القارئ حول الجسر أو فوقه أو بجواره أو بداخله، يستطرد في مراحل بنائه، والأساطير التي دارت حولها، يقرأ لنا الكلمات التي خطها البشر عليه، ويصطحبنا لنطل على شخصيات، صحيح أنها عابرة، لكنها لا تنسى: فاطمة الجميلة التي تنتحر خلال حفل زفافها كي لا تتزوج بمن تحبه، الثائر راديسلاف الذي رأي الجسر إنجازا للأتراك الكفار وحاول تدميره فصلب فوقه، الفتى اليهودي الذي عثر على دينار ذهبي في أحد شقوق الجسر وقامر به يوم السبت فلعن، الضابط النمساوي الذي انتحر من فوق الجسر لأن إحدى الفتيات الصغيرات غررت به وخدعته لكي تهرب عشيقها المتمرد في غفلة عنه وهو يحرس الجسر، فتحة الجسر المظلمة في عموده المركزي التي ظل الجميع لثلاثة قرون يعتقدون بأن بداخلها عربياً شريراً سيقتل أول من يدخلها وعندما دخل النمساويون البوسنة لم يجدوا فيها إلا مخلفات الطيور، علي خجا الذي سمّره الأتراك إلى الجسر من أذنه قبل أن يغادروا البلدة.. عشرات الصور الخلابة لبشر عاشوا يومياً «في» الجسر.

لا توجد كراهية في الرواية- الكتاب لأحد، ولا تربص بفكرة، ولا يشعرك أندرتش «الأديب الصربي»، ولد وعاش طفولته في البوسنة، أنه مع أو ضد، فمن خلال «جسره» تمكن من تجاوز كافة ثنائيات الهوية الفارغة من المعنى.

ظاهرة

جسر الروائي الألباني إسماعيل كاداريه مختلف، جسر ملعون أسس على نهر يكرهه الراهب جون ابن جورج أوكشاما راوي القصة في رواية «الجسر».

المكان في رواية كاداريه البلقان أيضاً، ويبدو أن هذا الموقع يحتاج إلى أكثر من دراسة لمعرفة ذلك الانفصال/ الاتصال الثقافي والحضاري حتى يكتب اثنين من أبرز روائييه، في ما نعرف من الترجمة العربية، روايتين عن الجسر، ما يؤكد ذلك الخلل في تلك المنطقة الذي يحتاج إلى إصلاح أو يحتاج إلى جسر على وجه الدقة.

جسر نهر أويان اللعين الذي شيد في ألبانيا عام 1377م، كان فاتحة لخراب قادم من جهة الشرق، فالرواية تنتهي بتوقع اجتياح العثمانيين لألبانيا. جسر نهر أويان نتج عن صراع بين أهل الماء وأهل الأرض أو الطريق بحسب كاداريه، كان لابد للتطور أن يحدث وأن يتم بناء أحد الجسور على ذلك النهر تسهيلاً لانتقال البشر بين الضفتين، الأمر الذي أضر بمصالح أصحاب العبّارات، ما أدى إلى أعمال تخريب كانت تحدث ليلاً في دعائم وأساسات الجسر نسبها العامة للخرافات والأساطير، لكن من قام بها في الحقيقة كانوا أتباع أصحاب العبّارات.

خلال بناء الجسر جاء الدراويش الأتراك، ظهروا من عدم، يجوبون المنطقة لجمع المعلومات، أحدهم يقيم صداقة مع راهبنا ويستمع منه إلى حكاية بناء جدار أحد الحصون الذي تولى تأسيسه ثلاثة أخوة، هذا الجدار كانوا يبنونه ليلاً ولا يلبث أن ينهار في الصباح، حتى سألوا أحد الحكماء، والذي أخبرهم أن جدارهم لن يتماسك إلا بتضحية بشرية، فاقترعوا بين زوجاتهم، وبالفعل وقع الاختيار على زوجة الأخ الأصغر التي حبست داخل الجدار وأكمل البناء على جثتها.

كان الراهب يحكي للدرويش القصة بوصفها خرافة أو أسطورة من أساطير البلقان، لكن لن تمر فترة حتى تتردد إشاعات قوية في المنطقة أن جسر نهر أويان لن يكتمل إلا بتضحية بشرية، ولم يلبث أن تحدث جميع سكان ضفتي النهر بتلك الإشاعات، وتحول الحكي إلى أغنية وقناعة شعبية، وفي أحد الأيام يستيقظ الراهب ليجد أحدهم وقد ضحى بنفسه لكي يٌحبس داخل أحد أجزاء الجسر مقابل مبلغ مالي يمنح لأسرته. هنا يكتمل بناء الجسر الملعون الذي تجنبه الناس لمدة أسبوعين، وخافوا من عبوره حتى لا يمرون بجوار الميت المدفون فيه.

تنتهي الرواية بتغلب الناس على خوفهم وعبورهم الجسر، لكن يشعر قارئ تلك الرواية أن كاداريه يكره جسره؛ بل يكره الجسور بصفة عامة، ففي روايته «قصر الأحلام» تدفن إحدى الأسر المقربة من السلاطين العثمانيين أحد أفرادها كتضحية لتشييد جسر كبير، وكأن لا تواصل بين البشر إلا عبر التضحيات والموت والدم.

تشظًّكاداريه يكره جسوره، تلك التي أدخلت ألبانيا في حقبة طويلة من الظلام، ولا توجد للجسر في تلك الرواية قصة ولا حواديت خاصة إلا حكاية هنا عن جنيات الماء أو هناك عن لعنة النهر أما توظيف الجسر الحقيقي فلنقاش فكري، تغيب عنه النزعة الجمالية كثيراً حول تاريخ ألبانيا تلك الأرض الموزعة الهوية بين: الشرق والغرب، تركيا وأوروبا، والإسلام والمسيحية، ويبدو أن جسر كاتبنا الألباني أداة فصل حادة بين كل طرفين، وليس هناك من رغبة في تجاوزهما معاً من خلال التسامح مع الماضي.

صمام أمام

الجسر- الصراط أيضاً هو صمام أمان للمؤمن في الدنيا، بدونه يقع في الضلال ويغضب الله عليه، بنص فاتحة الكتاب، وبدونه يختل الإيمان نفسه، و الصراط في الفاتحة مستقيم، «اهدنا الصراط المستقيم»، ولكي يكون مستقيماً هو منحة من الخالق لا يهبها لكل البشر، لكن في الوقت نفسه، لا يمكن لأي جسرحقيقي - صراط إلا أن يكون مستقيماً، فالالتواء والتعرج سمات كلها ترتبط بالطريق: النجد.. الذي يحيل في آية أخرى على الخيار بين نقيضين، فكما العبور على معظم الجسور الأرضية يهدف إلى تفادي عائق ما، فالسمة نفسها تنطبق على الجسور التي شيدت السماء قواعدها للسلوك في الأرض لتتجاوز عائق-اختبار الحياة وتمكن المؤمن من العبور إلى الآخرة.

في الجسر إذن قبس سماوي، كما تقول الحدوتة التي افتتحنا بها قراءة رواية «جسر على نهر درينا»، ففي الأرض لا انفصال بين مكان وآخر، أو إنسان وثانٍ، بسبب هوية أو دين أو عرق أو طائفة، الجسر الأرضي جناح ملاك قوي ومستقيم وطاقة نور لإخاء الأمكنة والثقافات والحضارات والبشر.

*بتصرف من رواية: «جسر على نهر درينا»،

تأليف إيفو أندرتش، ترجمة سامي الدروبي،

المركز الثقافي العربي، بيروت 2009.

عناد الطبيعة
النفق جسر مقلوب، عناد الإنسان للطبيعة، الأنفاق القديمة المهجورة مظلمة ومعتمة، مرتع لكل أنواع الجرائم، ومكان مثالي لعشرات من أفلام الرعب. الأنفاق الحديثة المضاءة.. مزودة بالنور الصناعي المؤذي للعين.. إذا كانت مخصصة للمترو فالإضاءة تقتصر على المحطات وحسب، ظلام يعقبه توهج مفاجئ، وإذا كانت مخصصة للسيارات فهي مخيفة. النفق حالة نشعر فيها بالخوف على الرغم من أن حوادثه التاريخية أقل بما لا يقارن بالجسور، في النفق ليس هناك ما نشاهده، علينا الحذر دائماً.

الجسور فائقة الحداثة، المخصصة للسيارات أو القطارات، تنزع منا الحرية، أنت اخترت السرعة والاتجاه الوحيد، هنا القرار حاسم ومنذ البداية، والسير حتمي حتى النهاية، الجسور التاريخية أو التي نتنزه عليها تمنحنا الاختيار، هنا يمكن مراجعة الذات، عبر إمكانية الالتفات أو الرجوع، هي جسور أشبه بكل ما يختزنه الطريق من معنى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/fnj6m9v8

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"