عادي

«دائرة التوابل».. رائحة آسرة للحياة

23:05 مساء
قراءة 4 دقائق
صالحة عبيد - غلاف

الشارقة: عثمان حسن
في رواية «دائرة التوابل» للكاتبة الإماراتية صالحة عبيد، يغوص القارئ في نوع جديد من الكتابة، يمكن أن يطلق عليه «الأدب الهجين»، وهو أدب يتحدى النوع الأدبي المتعارف عليه نحو مساحة حرة تمزج بين أكثر من نوع من أنواع السرد الأدبي.

وفي هذه الرواية، برعت صالحة عبيد في المزج بين نوعين أدبيين هما: القصة القصيرة والسرد الروائي، وجاءت الرواية في 191 صفحة من القطع المتوسط، وصدرت عن منشورات المتوسط في ميلانو-إيطاليا سنة 2022.

ميزة هذه الرواية، وكما كتب عنها، أنها تطرح الكثير من الأسئلة الوجودية، من خلال بطلتها «شيريهان» التي ذهبت لدراسة التشريح في العاصمة الإسكتلندية أدنبرة، وها هي تجد نفسها مأخوذة بهاجس الموت واكتشاف أسراره.

أكثر من ذلك، فإن الكاتبة تعتمد واحدة من البنى الرئيسية في روايتها، وهي حاسة الشم التي تشكل ركناً أساسياً من أركان الرواية، ويؤكد ذلك عنوان الرواية الذي يشكّل عتبة أولى.

حملت «دائرة التوابل» الكثير من العناوين بينها: (عبدالعزيز بن المعتز، سامراء العراق 861-881م، شيريهان - دبي - العاشرة مساء، عبدالعزيز - دبي - ديرة، العشرينيات الميلادية، شيريهان - دبي - الثالثة مساء، النار تلك الكتلة بين سامراء ومكة 881م، عبدالعزيز - جزيرة كبش القرنفل - العشرينيات الميلادية، عبود بو رأسين - دبي - ديرة - العشرينيات الميلادية، شيريهان - أدنبرة - إسكتلندا - العاشرة صباحاً، شيريهان - الطائرة من مطار جلاسكو الدولي إلى مطار دبي الدولي - الثامنة مساء، شيريهان - مستشفى الولادة - أبوظبي الثامنة صباحاً، شما - ديرة - دبي 1935-1936، فاطمة بنت ثابت - سامراء العراق 909-910م).

عتبة العنوان

في رواية «دائرة التوابل»، تفضي الرائحة إلى حاسة الشم، والرائحة هنا، وكما يستشف من الرواية، كناية عن قيمة ورمز وثقافة وفلسفة، وفي أحيان كثيرة هي كناية عن مبرر أخلاقي وموضوعي، يغوص في تبدلات وتحولات المكان والزمان، وتقرأ ما ظهر، أو خفي، وربما «تقنع» وراء مظاهر السلوك البشري، وهي بالضرورة عتبة مهمة من عتبات السرد الفني، حيث تسافر عبيد من خلالها إلى كثير من الأماكن بين الشرق والغرب، لتعود في نهاية المطاف إلى موطنها في جزيرة العرب، لتبني نصاً سردياً بجسد وروح يتنفس عبق الأمكنة كما جاء في خاتمة الرواية، التي تؤكد من خلالها حاسة الشم كمحمول فني وفلسفي، فهي حاسة نفاذة تحسم أمرها، وتمضي إلى جزيرة العرب، وهنا، من خلال شخصية «نجوان»، هذه السيدة التي تتزوج رجلاً ذا قدرة بارعة على حفظ الشعر، ثم يذيع نبأ سلالتهما التي كان رجالها يولدون بقدرة بارعة على الشم، أكسبتهم رفعة بين الناس، وامتهنوا جيلاً بعد جيل تجارة التوابل.

ويؤكد الباحث التونسي رضا الأبيض، في استعراضه للروايات التي انبنت ثيمتها الرئيسية على عنصر «الرائحة»، أن الرائحة لها قيمة مميزة ودائمة لارتباطها في الذاكرة بأحداث ومواقف كثيرة، كما جاء في دراسته «كتابة الرائحة في نماذج من الرواية العربية».

وفي هذه الدراسة، يشير الباحث إلى إهمال النقد العربي لتاريخ الشم في الثقافة العربية، بينما اهتم النقاد الغربيون بحضور الروائح في تاريخهم وثقافتهم ونصوص أدبهم، فتبسطوا في الحديث عنها، مبرزين علاقتها بمختلف الفنون، والباحث يسند دراسته بعدة مراجع فرنسية وإنجليزية، سواء تلك التي اهتمت بتاريخ الروائح أنثروبولوجياً وفلسفياً، أو تلك التي تدبرت نماذج من الأدب، تتقصى حضور الرائحة فيها، وتبحث في رمزيتها.

ويعدد الباحث أكثر من رواية في هذا السياق بينها: «رائحة الصابون» لإلياس خوري، و«رائحة الأنثى» لأمين الزاوي، و«فخاخ الرائحة» ليوسف المحيميد، و«رائحة القرفة» لسمر يزبك، و«روائح ماري كلير» الحبيب السالمي، و«روائح المدينة» لحسين الواد، و«زرايب العبيد» لنجوى بن شتوان، و«رائحة الكافور» لميسلون فاخر. وهذه الروائح متعددة المصادر والأماكن تسهم في بنية الرواية، وتمنحها النظام والمعنى.

وبهذا المعنى، يمكن إدراج «رائحة التوابل» ضمن هذه المؤلفات التي سعت صالحة عبيد من خلالها إلى تقديم أدب خارج عن المألوف، وهذا يذكّرنا بثلاثية «بونا دامني» للشاعر والكاتب المسرحي اليوناني المعاصر ديميتريس لياكوس الذي كتب عنها أنها تتحدى النوع الأدبي، وتجمع بين موضوعات كثيرة مع عناصر من الطقوس والدين والفلسفة والأنثروبولوجيا.

حاسة الشم

حاسة الشم أو الرائحة في رواية «رائحة التوابل»، ورثتها بطلة الرواية «شيريهان» بالفطرة، ومن خلالها تغوص في الكشف عن هويات وأسرار وطبائع البشر والناس، والرواية بهذا المعنى تفتح باب التأويل على مصراعيه، وهي كما وصفها الناقد الدكتور رشيد بوشعير، رواية تخرج من الدائرة المحلية إلى الدائرة الإنسانية الأشمل من حيث المضمون، بما فيها من هواجس فكرية متصلة بأسرار الموت ومصادر المعرفة، ومن ناحية اللغة، فإنها لغة تتناسل في يد الكاتبة كالصلصال الذي تشكله كما تشاء عن طريق أساليب الانزياح، و«دائرة التوابل» تعد إضافة نوعية تثري الرواية الإماراتية، وتفتح آفاقاً فكرية وجمالية جديدة وجريئة أمامها، ومن خلالها يتعرف القارئ إلى التغيرات التي طرأت على دبي والمجتمع الإماراتي.

نقرأ بين دفتي الكتاب تحت عنوان (عبدالعزيز - دبي – ديرة، العشرينيات الميلادية): «سمع جده يقول ذلك للرجال بفخر، فأخذته المفاجأة وهو يتذكر امتعاض جده قبل سنوات من شكل أنف «شما» ورأسها الكبير، كانت المرة الأولى التي يسمع فيها ذكراً لأنثى في مجلسهم الخشن غالباً.. «شما» كسرت القاعدة، لم يعد أحد يلتفت إلى أنفه المميز، الأنف الذي لم يعد عبدالعزيز يشعر بجدواه، هو الذي لا يفهم ما تعنيه كلمات كالرائحة والمذاق، إذ كيف له أن يفهم ما لا يحس به؟ يفكر مراراً.. ولا يعرف كيف يشرح ذلك لسلالة التوابل التي أقرت بإخفاقه، فكلما قدمت له مزيجاً، يحتار ولا يستطيع إدراك فحواه، كان يحس بأنه باب مصمت كباب بيتهم الخشبي، الذي يترنح بلا إدراك طول اليوم...».

وترافقنا الرائحة في أكثر من موضع كقول الكاتبة في الصفحة 29 من الرواية: «لك رائحة حامضة يا عزيز، انتشلته شما ذات يوم من شروده المعتاد، وهو يعيد استذكار مولدها وتضخم سيرتها، ومنذ أن أصبح أقرب إلى امرئ منبوذ، صار يتسلى بالأفكار، فيتخيل، وكثيراً ما يتخيل، أن له من القوى ما يمكّنه من أن ينفذ إلى رؤوس الآخرين، ليقرأ أفكارهم، ما الذي ستعنيه الرائحة عندها؟ ما الذي تعنيه بالرائحة الحامضة؟ لا أعلم هي رائحة لاذعة، فيها شيء من رائحة أبي، لكنها أقوى، تشعرني أحياناً بالخوف».
الناشر:منشورات المتوسط

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mphnu2rw

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"