عدم الدقة أيضاً منهجية

00:09 صباحا
قراءة دقيقتين

هل من باب مجاملة المشاعر الحسّاسة، لم يُرد القلم جعل العنوان مثلاً: الفوضى غير الخلّاقة في تدوين التراث؟ إذا أردت فصل المقال من الآخر، فإن على أهل البحوث والدراسات والتحقيقات التراثية أن يدركوا جيّداً أن ليس لهم من الوقت ما يكفي للتسويف والتأجيل، فتسارع الزمن كل يوم هو في ازدياد. هل وخزتْ ذهنَك عبارة الفوضى الخلّاقة في مقام طرح قضايا الثقافة العربية؟ للأسف، هذه حقيقة، فتاريخ الأدب العربي جلّ تدوينه أمورٌ معلّقةٌ لم يُبتّ فيها، كأنما شملتْه تسمية المعلّقات. بل إن هذه النسبيّات المتأرجحات تبدو هيّنة إذا قيست على الميراث المعجمي، فصناعة القواميس القديمة قامت على منهجيّة مهزوزة من الأساس، لكون منافذ عبورها تفتقر إلى التفتيش الجمركي. كثير هو التجميع من دون فحص.

اليوم ومستقبلاً، بقدرات الأدمغة أو بمعلوماتية الحواسيب وخوارزميات الذكاء الاصطناعي، لم يعد مقبولاً ومبرَّراً نقل التراث كما هو إلى الأجيال الحاضرة والتالية. عجيب أن قواعد نحونا وصرفنا، لا تزال تعشش فيها أباطيل الرواة ومتاهات النحاة؟ كان بعض النحاة عندما لا يظفر بالشاهد المناسب، يلجأ إلى شاعر أو راوية يتقن النظم، ليصنع له بيتاً مفصّلاً على مقاس القاعدة التي وضعها وحبكها. بعضهم أظرف، كان يختصر الطريق بالقول: «سمعت أعرابيّاً يقول»، أو ينسب إلى شخص انتقل إلى عالم ليس فيه أكاذيب نحوية، أنه ذكر الشاهد. الكثير من الشواهد فيه من التصنّع ما لا يمكن أن يجري على لسان شاعر ذي ذوق سليم.

على أهل التحقيقات الأدبية أن ينظروا إلى النشء الجديد والأجيال الآتية، كأبناء وأحفاد، فلا يجوز أن يهدوا إليهم متاهات مضنية. هذا نموذج بسيط: ديوان قيس بن الملوّح، مجنون ليلى، الذي جمعه ورتّبه شخص اسمه «أبو بكر الوالبي»، لكن أبا بكر هذا، أعيا أمرُه المحققين، فهو غير معروف، ولا تُعرف له مؤلفات. الكوميديا هي ما يقوله الوالبي نفسه عن الشاعر، نصّاً: «قال أبو بكر الوالبي: اختُلف في اسم مجنون بني عامر: هل هو عامر أو مهدي أو الأقرع أو معاذ أو قيس ابنه أو ابن الملوّح أو البحتري بن الجعد؟ والصحيح الأول. وفي نسبه: هل هو عامريّ أو كلابي جعديّ أو قشيري، أو المجانين متعددة، أو هما اثنان في بني عامر؟ والصحيح الأوّل». مع هذه الاختلافات، كيف نصدّق أن الأوّل هو الصحيح؟ أين الحجة؟ فإذا صح أنه الصحيح، فما هذه الفوضى؟

لزوم ما يلزم: النتيجة التعويمية: المعاجم نفسها دوّامات، في «لسان العرب» مئات من المتاهات، خصوصاً في النباتات والحيوانات والأماكن: «هو كذا وقيل كذا وقيل بل هو كذا، ونفى فلان أن يكون كذا». من المنقذ من هذا الضلال؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bddr3sec

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"