لعبة المرسل والجمهور

01:06 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

ميّزت الآداب والفنون، وحتى علوم الاتصال، دائماً بين المحتوى والأداة، أو الشكل والمضمون. كانت وسائل مثل السينما والتلفزيون والمذياع تعتبر أدوات بإمكان القائم عليها تضمينها مواد معينة، تنتهي إلى الجمهور أو المتلقي، أو ما أطلق عليه في الإعلام «المستقبل». كانت تلك الأدوات خاضعة في بلدان لسلطة الدولة، أو مملوكة لأحزاب وهيئات وأفراد في بلدان أخرى، ظلت تلك التبعية قائمة على مدار أكثر من قرن، وشهدت أطروحات تتعلق بمكونات عملية الاتصال نفسها التي تتوزع بين المرسل والمتلقي، وبينهما طبيعة الرسالة، وأثيرت حول العلاقة بين تلك الأطراف العديد من الرؤى والنظريات، هناك من كان ينظر إلى المتلقي بصورة سلبية تماماً، فالإعلام قادر على تشكيل عقله، وتوجيهه حيث يشاء، وذهب الكثير إلى أنه مهما ادعى ذلك الإعلام الحيادية والموضوعية والشفافية، ومهما امتلك المتلقي من ثقافة وقدرة على الفرز والتمييز، فإن للأول سلطة ما على الثاني، بما يمتلكه من أدوات، يستطيع تضمينها برسائل، كثيراً ما تكون رمزية أو مراوغة، تتسلل إلى عقولنا رغماً عنّا.

  ما يثيره الهاتف المحمول بما يوفره من تطبيقات مختلفة، وما أفرزه من ثقافة جديدة، هو سؤال، إلى أي مدى غيّر ذلك الهاتف في العلاقة التقليدية بين المرسل والمتلقي؟ حيث لم تعد الرسالة الإعلامية في كثير من الأحيان تأتي من أعلى، وهناك منذ سنوات صحف ووسائل إعلامية تعتمد في حد كبير على محتوى أو مضمون يصنعه البشر العاديون، واتجهت وسائل إعلام إلى نشر كل ما يرضي هؤلاء البشر ويتفاعلون معه، وباتت تلك الوسائل تلهث وراء «الترند»، بل وتصنعه، أي للمرة الأولى يتحول المتلقي إلى موجه للمرسل أو صانع المحتوى التقليدي، هذا مع الأخذ في الاعتبار أن العالم بات مفتوحاً، كما لم يكن من قبل، وتعددت الخيارات أمام ذلك المتلقي، وأصبح يستطيع تجاهل الرسائل والوسائل الموجهة أو التي كانت قديماً تتلاعب بعقله، هل يعني ذلك أن الإعلام بمفهومه التقليدي فقد أية سلطة على المتلقي؟ والسؤال الأكثر إشكالية أنه مع تحول الجمهور أو المتلقين إلى صنّاع محتوى، فهل يؤشر ذلك على أن الهاتف كأداة أصبح يتطابق مع ما يستقبله أو يقدمه من مضمون؟ بمعنى هل انتهى ذلك التمييز القديم الصارم بين الأداة والمحتوى، أو الشكل والمضمون؟.

  هيمنة الإعلام على العقول بأشكالها ودرجاتها المختلفة، لن تنتهي، فمحاولة بعض البشر السيطرة على عقول البعض الآخر، لعبة قديمة منذ بداية الإنسان، والإعلام أهم أدواتها، لعبة لازمة لضبط شكل المجتمع وطبقاته والعلاقات بين مختلف قواه، ونهاية هذه اللعبة معناها الفوضى الشاملة التي ستصيب المجتمع بخلل في بنائه ذاته، وتحّول الهاتف إلى ثقافة أو محتوى، بدوره لعبة فيها ظل من فوضى، حيث تبدو الأمور كثيراً محيرة وبلا ضابط، فما معنى «الترند» على سبيل المثال؟ وكيف يمكن فهم ذلك الانتشار الكاسح لخبر سطحي، أو تفسير تلك المشاهدات المليونية لمقطع فيديو ساذج؟.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3b5hjhb4

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"