نابليون و«الثورة» والحياد

00:30 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

يُقيم اللبنانيون في ما يمكن تسميته ب«حرب المصطلحات»، تعبيراً عن «تشظّيات الجمهورية وحروبها» المُعلنة، المتعددة الأشكال: الطائفية والمناطقية، وآخرها النزوح السوري، بتعقيدات إمكانات تلافيه بالترحيل. المفاجئ أن مصطلح «الحياد» ينمو، بل يشطح في موجات من الحماس والتقاذف السياسي والإعلامي، سواء بالدعوات إلى اللامركزية، الإدارية العادية أو الموسّعة، اللتين لم يتمّ تطبيقهما وفقاً لمندرجات اتفاق الطائف، أو يتجاوز الطائف والدستور للمجاهرة بالفيدرالية، وحتى بالتقسيم عبر المؤتمرات والندوات والمقابلات التلفزيونية، مع أنّ شعار الرئيس صائب سلام مقيم في الأذهان بأنّ «لبنان أصغر من أن يُقسّم وأكبر من أن يُبلع».

بالتأكيد «الثورة سجينة قوسين مقفلين متوافقين»، ولو تضمّخت بالتغيير، لأسباب متعدّدة أوّلها، أنّ مدلول المصطلح تاريخيّاً معقّد، وأعباؤه ما زالت تُثير انقسامات في تواريخ الأديان والشعوب، وثانيها أنّه مرتبط بتعددّية مفاهيم التغيير لدى الحركات والأحزاب، وتنوّعها، وثالثها أنّ الثورة كمصطلح «يتجرجر» لبنانيّاً بعدما فشلت «الثورة» في فرز قياداتها وبرامجها، أو بسبب قمعها من المنظومات القابضة على السلطات.

أذهب من هنا بعيداً في التاريخ نحو مصطلح «الثورة»، مقروناً بنابليون بونابرت 1789 كمادة شيّقة في محاضرات الزملاء الفرنسيين في «الكوليج دو فرانس»، وجامعة السوربون، ولو بعد تفريعها، إذ كان يدهشني، أثناء دراساتي العليا في باريس، ظاهرة الاحتقار للمصطلح هناك.

كانت حججهم تُدين الأوصاف لقائد عسكري تمركزت الثورة باسمه، ناسين حروبها، وأعباءها الهائلة التي لم يمحها التاريخ. يعتبر نابليون «أنّ الدول، وحتّى البشرية، لا يمكن إدارتها أو الاستمرار ي تمثيلها بالرجال الدمى، بل بالقادة الأنقياء القُساة الغُلظاء». صحيح أنّ هذا القائد أضاع إمبراطوريته في جبال إسبانيا، وثلوج روسيّا، واستعادها ل100 يوم فقط، قبل أن يتم نفيه في سهل واترلو، ثم إلى جزيرة سانت كاترين، وموته هناك، لكن الأصح من هذا كلّه أنّه دمغ جبهة التاريخ بمصطلح «الثورة»، وما إيمانه بالتغيير سوى عبر قوله اللافت: «لو بقيت في مصر لكنت اليوم إمبراطور الشرق. لم يسئ لي أحد إطلاقاً...لكنني أسأت لنفسي، وأكبر أعدائي هم الذين ما عارضوني يوماً، بل كانوا يخضعون لي بسهولة مسببين لي الجراح الكثيرة والمنفى الذي سأموت فيه».

لماذا حصل ذلك؟ «أصدر الباب العالي فرماناً (1799) للدفاع عن الإسلام بوجه الفرنسيين، لم أُعِره اهتمامي بعدما شاع الصيت باعتناقي الإسلام، ورحت بتأدية الفرائض الدينية حاكماً اسمي «بونابردي باشا»، وعندما أيقنت أنّ الأساطيل العثمانية والروسية والبريطانية الحليفة تتجهّز في البحر المتوسط لقتالي، وإخراجي من مصر، قرّرت مفاجأة العثمانيين باحتلال بلاد الشام، فقدت جيشي نحو سواحل الشام محتلاًّ العريش، وغزة، ويافا، والرملة، وحيفا، ووصلت صور في لبنان وتوقّفت».

لماذا توقّف؟ لأنّ عكا صمدت بقيادة «أحمد باشا الجزار» في وجهه لتتعادل قوى الفريقين. هكذا تطلّع نابليون بونابرت وأحمد باشا الجزّار نحو أمير لبنان، بشير الشهابي الثاني (حكم لبنان من 1788 حتّى 1840)، بصفته أميراً قادراً على ترجيح كفّة من يُساعده بما يكفل فوزه عبر ما يُقدمه من رجال وسلاح ومؤن.

كتب الاثنان للأمير بشير يطلبان المساعدة، فوعده نابليون في حال مساعدته بتوسيع إمارته، وتخليص بلاد الشام من حكم أحمد باشا الجزار، الذي طلب بدوره أيضاً من الأمير بشير بأن يساعده مقابل أن يعيد له مدينة بيروت كلها إلى إمارته. أمّا الأمير بشير فقد اتّخذ موقفاً محايداً من الاثنين.

ماذا فعل؟ لم يجب على رسالة نابليون بونابرت، غاضّاً النظر عن المؤن التي كان بعض الأهالي يزوّدن بها الجيش الفرنسي، واعتذر من أحمد باشا الجزار لعدم نجدته، زاعماً أن اللبنانيين امتنعوا عن طاعته بعد أن سمعوا بأن الجزار قد عزل أميرهم بشير الثاني عن الحكم، وولّى مكانه أحد أبناء خصمه اللدود الأمير يوسف الشهابي.

يمكننا أن نذكّر ونفهم إذن، أنّ البطريرك بشارة الراعي أدرج «مذكرّة لبنان والحياد الناشط»، لدى احتفالنا عام 2020 بمئوية تأسيس دولة لبنان الكبير الذي قام أساساً على الحياد، وأورثت ردود الأفعال المتناقضة، لكنّ التدقيق التاريخي بأنّ الأمير بشير الثاني كان الداعي الأوّل للحياد اللبناني قبل 223 سنة، لا مئة سنة، وحسب.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/w7fsbny3

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"