لوحة مزعجة

00:13 صباحا
قراءة دقيقتين

يذكر (الكسندر إليوت) في كتابه (آفاق الفن) ترجمة: جبرا إبراهيم جبرا أن ثمة أسطورة صينية تقول إن رسّاماً فتح باباً صغيراً في صورته الجدارية (يقصد اللوحة)، ودخل منه، ثم أغلق الباب خلفه، ومنذ ذلك الوقت لا الباب وُجد، ولا الرسام رأى أحداً (صفحة ٩٣).

قصة الرسام والباب هذه تذكّرك بقصة أخرى مشابهة لها، إذْ يُروى أن أحد ملوك التتار كانت في بيته لوحة معلقة على جدار تصور نهراً يتدفق ماؤه بغزارة، الأمر الذي أزعج الملك:.. قال:.. صوت الماء يزعجني، أوقفوا ماء النهر.

غير أنه لم يكن هناك لا ماء ولا نهر، بل لوحة معلّقة على جدار صوّر فيها الرسام نهراً متدفقاً، وبما أن الملك المغولي قد انزعج من تكرار صوت الماء، فإنه كان ينبغي إما إنزال اللوحة عن الجدار وإبعادها عن غرفته، أو تدمير اللوحة بالكامل، كي يتوقف النهر.

غير أن الأنهار لا تتوقف عن الجريان سواءً في الجغرافيات أو في اللوحات، وقليلاً ما تجف الأنهار:.. السين، النيل، الأردن، الأمازون، المسيسيبي.. مازالت تجري ومع الأيام، تصنع الضفاف، وتصنع الدموع.

البحر لا يجري، وليس الجريان من طبيعة البحار، فهي ساكنة في صورتها التشكيلية العامّة. بل هناك بحار مغلقة.. تلك التي لا أمواج لها، وربما يكثر فيها القراصنة..

.. والغريب أنه لا قراصنة في الأنهار. إنهم يتجنّبون العمل في ماء مثل ماء النهر، النهر الملتوي أحياناً، وأحياناً يجري في استقامة، ويأخذك في جريانه إلى أدغال وغابات وضفاف، في حين يبدو البحر مثل عجوز أزرق، هادئ، وإذا انفعل وغضب، فإن أكثر ما يرميك به هو بضع موجات عارمة سرعان ما تذوب حين يلتهمها رمل الشاطئ.

ما أغرب حياتنا هذه، وما أكثر الصور الشعرية فيها، وما أكثر ما يمكن أن نتأمله ونفكر فيه، ونكتب بناءً عليه، فقط، حين نستغرق قليلاً أو كثيراً في الصورة.. الصورة فقط سواءً أكانت على الأرض، أم كانت على جدار..

.. لكن في النهاية، تأمل معي أنه يمكن إنزال لوحة عن جدار، بل وتدميرها كلّها، لأنها مجرد لوحة، في حين أنه لا يمكن تغيير مجرى نهر أو إيقاف جريانه، كما لا يمكن نقل بحر ما من مكانه الجغرافي إلى مكان آخر.

من أجمل أنهار العالم نهر النيل، ومن أجمل بحار الأرض: الأبيض المتوسط.. النهر لم يُغَيّر مجراه، إلى اليوم منذ بدء ثقافة الماء والبحر لم يغيّر مكانه..

لم يستطع الملك التتري وقف النهر، ولن يستطيع القراصنة احتلال البحار..

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2b5sftna

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"