ليلة العرّافين

00:01 صباحا
قراءة دقيقتين

تشعر أحياناً بأن العالم كله يتطور، والتكنولوجيا تفرض نفسها على الكبير والصغير، والقمر والمريخ، وربما كل الكواكب أصبحت، وستصبح في متناول يد الإنسان، إلا القنوات التلفزيونية، فهي عصيّة على التطور، تجتر نفسها، تلوك برامجها، تنبش في الدفاتر البالية، لتقدم للجمهور برامج ينزل بعضها إلى ما دون الحضيض، لاسيما تلك المحطات التي تأبى إلا أن «تبهرنا» ليلة رأس كل سنة باستضافة أحد الدجالين الذين أصبحوا، وبفضل الإعلام طبعاً، من المشاهير والأثرياء.
مذيع وعرّاف، كلّ يجلس على كرسي فيوحي لك بأنه ملك على عرش يخاطب من عليائه عموم الشعب، لا حوار في تلك البرامج، بل خطاب يلقيه «صاحب الإلهام» علينا بأسلوب تجاوز حدود الثقة بالنفس، ليطغى الغرور، ويقول لك إنه يلجأ إلى العلم في حساباته، وبفضل «الحاسة السادسة» يرى ما لا يمكننا رؤيته، ويتوقع، ويتنبأ بما سيحدث خلال هذا العام، والبعض يقول «توقعاتي لا حدود لها، قد تتحقق خلال العام الجديد، أو ربما بعده بعام، أو اثنين».
ما هذا الهراء؟ كل شيء، وأي شيء، قد يحدث هذا العام، أو خلال الأعوام التالية، سواء كان على صعيد الكوارث الطبيعية، أو الحوادث والوفيات، أو التغيرات السياسية، فكيف يصدق الناس هؤلاء الدجالين ولماذا تفسح لهم القنوات التلفزيونية المجال لبث أكاذيبهم ليلة رأس السنة؟
طبعاً، تراهن تلك القنوات على الفضول البشري، ورغبة كل إنسان في معرفة الغيب، وما الذي ينتظره في المستقبل، القريب أو البعيد، رغم علمه، بل يقينه بأن لا أحد يعلم ما الذي سيحصل حتى بعد دقائق، سوى الله، وأننا نعمل، ونخطط، ونفكر، ونحلم، ولكن من دون يقين مؤكد بما سيحصل، وماذا يخبّئ لنا الغد. كذلك تراهن القنوات على الفراغ الذي تغرق فيه قنوات أخرى، باستثناء قلة تخصص ليلتها لتبث أجواء الاحتفالات من الشوارع، والأماكن العامة، حيث تنطلق الألعاب النارية عند منتصف الليل، تراهن على عدم تجديد الدماء والأفكار في أغلبية القنوات العربية، كأنها تحولت إلى استوديوهات معلّبة، بأفكار معلّبة، لا يخرج التجديد فيها عن إطار تغيير أسماء مقدمي البرامج الفنية والحوارية، واستقدام النجوم من الفنانين لتولي هذه المهمة.
ليلة رأس السنة حوّلتها الشاشات إلى ليلة العرّافين، يسرحون بخيالهم، ويضحكون على الجمهور بتوقعات لا بد أن يصيب بعضها، ويخيب كثيرها، فمن يحاسبهم عندها؟ من تتوقف حياته عند تنبؤات الدجالين فيغير مشاريعه ويخطط مستقبله وفق رياحهم وأهوائهم؟ أفلا يتوقعون أن نشهد يوماً نهضة حقيقية في قنوات تلفزيونية عدة؟
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/yrkuejnp

عن الكاتب

كاتبة وناقدة سينمائية. حاصلة على إجازة في الإعلام من كلية الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية. ساهمت في إصدار ملحق "دنيا" لجريدة الاتحاد ومن ثم توليت مسؤولية إصدار ملحق "فضائيات وفنون" لصحيفة الخليج عام 2002 فضلا عن كتابتها النقدية الاجتماعية والثقافية والفنية. وشاركت كعضو لجنة تحكيم في مهرجان العين السينمائي في دورته الأولى عام ٢٠١٩

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"