«آسيان +3» ليست استثناء

21:40 مساء
قراءة 4 دقائق

هو إي خور *

يتعرض المشهد الاقتصادي العالمي لتغيرات سريعة وواسعة النطاق، أضعفت خلالها ندوب جائحة «كورونا» النمو المحتمل، مما جعل تباطؤ مكاسب الدخل هو الوضع الطبيعي الجديد للعديد من البلدان.

ولا تقتصر مخاطر التوترات الجيوسياسية، وخاصة الحرب التجارية والتكنولوجية بين الولايات المتحدة والصين، فقط على ضرب العولمة، التي كانت عاملاً رئيسياً في تمكين النمو على مدى العقود القليلة الماضية، بل أيضاً على تقسيم الاقتصاد العالمي إلى كتل منفصلة. ويبدو أن أيام التضخم المنخفض والمستقر ذهبت ليحل محلها أسعار أعلى وأكثر تقلباً.

من ناحية أخرى، يستمر التحول الرقمي السريع المدفوع جزئياً بتقنيات متقدمة كالذكاء الاصطناعي التوليدي، بإعادة هيكلة المشهد العام، كما أصبحت تأثيرات تغير المناخ أكثر وضوحاً يوماً بعد يوم، مما شكل تحديات كبيرة لصناع السياسات في جميع أنحاء العالم، وبالطبع فإن رابطة دول منطقة جنوب شرق آسيا، بالإضافة إلى الصين واليابان وكوريا الجنوبية، والمعروفة ب «آسيان +3»، ليست استثناءً لهذه القاعدة.

وخلال الجائحة، بذلت حكومات «آسيان +3» قصارى جهدها لدعم اقتصاداتها، وخاصة من خلال تحويل العجز المالي إلى وفرة، وهو أمرٌ صعب في الأوقات العادية. وضخت الدول الكثير من الحوافز المالية غير المسبوقة، بما في ذلك كميات كبيرة من المساعدات المباشرة للأسر والشركات، مصحوبة بتخفيضات نوعية في أسعار الفائدة، وتأجيل سداد الديون في بيئة تنظيمية داعمة. وعلى سبيل المثال، وصلت التخفيضات التراكمية لأسعار الفائدة في الفلبين إلى 200 نقطة أساس في عام 2020.

في واقع الأمر، تعتبر هذه التدابير في حقبة ما بعد الجائحة مفرطة وغير حكيمة ولا مستدامة. لكن انخفاض النمو وارتفاع التضخم وزيادة الدين العام، الذي ارتفع من نحو 93% من الناتج المحلي الإجمالي في المتوسط عام 2019 إلى 100% في عام 2022 في اقتصادات المنطقة، يجعل تفكيكها أمراً صعباً.

وللقيام بذلك مع معالجة التحديات متعددة الأوجه التي تنتظرنا، لا بد من وجود مزيج من السياسات المصممة بعناية لتناسب احتياجات محددة اعتماداً على الظروف الاقتصادية والحيز السياسي. فمثلاً، حرصت سنغافورة على معالجة التضخم من خلال التشديد النقدي الصارم في المقام الأول، مستهدفة سعر الصرف للحد من التضخم العابر للحدود.

وعلى النقيض من ذلك، اتبعت إندونيسيا، وماليزيا، وكوريا الجنوبية، وتايلاند زيادات تدريجية في أسعار الفائدة، مستخدمة تيسيراً نقدياً من إعانات دعم الوقود والغذاء للسيطرة على التضخم. كما أيدت الصين، حيث لا يزال التضخم منخفضاً، والتعافي بعد الجائحة كان أبطأ من المتوقع، واليابان، ذات التضخم الهيكلي المنخفض كذلك، السياسات التيسيرية تلك.

وأيضاً، تدخلت «آسيان +3» في أسواق الصرف الأجنبي. ومع رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة بقوة لأول مرة قبل عامين، ارتفعت قيمة الدولار الأمريكي، وخاصة في مقابل عملات البلدان التي تتمتع بفروق أكبر في أسعار الفائدة. وبما أن الانخفاض السريع في قيمة العملة يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الضغوط التضخمية، مما يجعل من الصعب على الشركات والأسر التكيف معها، استخدمت العديد من البنوك المركزية في «آسيان +3» احتياطياتها الدولية لدعم عملاتها.

وكان صناع السياسات حريصين على عدم المبالغة في ذلك، واحتفظوا بالقدر الكافي من الاحتياطيات الدولية للوفاء بالتزاماتهم الخارجية. ويبدو، على نطاق أوسع، أنهم تمكنوا من مواجهة التداعيات الناجمة عن صدمات الوباء والتضخم، لتظل الرابطة نقطة مضيئة في الاقتصاد العالمي.

ولكن هذا النجاح جاء على حساب تقليص الحيز السياسي، ومن أجل تحمل الصدمات المستقبلية، يتعيّن على بلدان المنطقة الآن إعادة ملء هذا الحيز. ولتحقيق ذلك، عليها الشروع في ضبط الأوضاع المالية، وإنهاء التساهل التنظيمي، وتخفيف أعباء الديون، وغير ذلك من السياسات والبرامج غير العادية التي طُرحت أثناء الجائحة.

وفي سبيل ذلك، رفعت سنغافورة العديد من الضرائب، بما في ذلك الضريبة على السلع والخدمات، ونفذت إندونيسيا حزمة إصلاح ضريبي شاملة تتضمن زيادة بنسبة 2% في ضريبة القيمة المضافة. وتعمل ماليزيا على تقليص الإعانات واسعة النطاق لصالح المزيد من الدعم الموجه. كما اعتمدت الفلبين إطاراً مالياً متوسط الأجل. وفي الأمد القريب، تبرز أولويتان أمام هذه الدول: تعزيز الموازنات العمومية في كل من القطاعين العام والخاص، وبناء الاحتياطيات المالية.

ورغم أن القطاعات المالية في «آسيان +3» ظلت مستقرة، مع وفرة من السيولة والاحتياطيات الرأسمالية، فإن بعض الاقتصادات تعاني جيوباً من الضعف، وفي العديد منها ارتفعت أرصدة الديون بشكل غير مريح لتقترب من عتبة الاستدامة. بالتالي، لابد من تنفيذ أو تعزيز السياسات التحوطية الكلية، مثل متطلبات رأس المال، ونسب القرض إلى القيمة، ونسب خدمة الدين، وإعادة رسملة البنوك الضعيفة.

بالإضافة إلى ذلك، قد تحتاج بعض البلدان إلى تطوير هيكليتها الأساسية، بما في ذلك إصلاحات سوق العمل، والسياسات الصناعية، والتغييرات التنظيمية، وبذل جهود متضافرة لتعزيز الاستثمار الأجنبي المباشر والتجارة. وعليه، يتعين على دول «آسيان +3» ألّا تهدر الوقت، وأن تستعد لمواجهة التحديات الهائلة أمامها؛ لأن أفق الاقتصاد العالمي يعتمد على نجاحها.

*كبير الاقتصاديين في مكتب أبحاث الاقتصاد الكلي التابع لرابطة دول «آسيان +3» «إنترست دوت كو»

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/4fy6k3db

عن الكاتب

كبير الاقتصاديين في مكتب أبحاث الاقتصاد الكلي التابع لرابطة دول «آسيان +3»

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"