عادي
نحن والآخر

حرية الرأي والتعبير في الإسلام

00:13 صباحا
قراءة 4 دقائق

كرَّمَ الله تعالى الإنسان بأن خلقه في أحسن تقويم، ومنحه العقل الذي هو مَناط التكليف، وبه كان التشريف والتفضيل على سائر المخلوقات. ولا تكون للإنسان حرية كاملة إلا بالتعبير عن رأيه وعمَّا يريده أو يفكر فيه، ولذلك كانت حرية الرأي والتعبير من الحريات الضرورية التي أقرَّها الإسلام للإنسان عموماً، ولم يجعلها مقصورة على المسلمين وحدهم، وإنما هي حق للمسلمين ولغير المسلمين، انطلاقاً من قول الله سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء: 70).

من الآداب التي أمر الله سبحانه وتعالى بها الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يقولوا للناس حُسناً، وأن تكون الدعوة بلين القول، وأن يكون هناك الرأي والرأي الآخر، قال الله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (البقرة: 83)، وقال جلَّ شأنه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران: 159).

ومن حرية الرأي ما جاء في سورة المجادلة، من تعبير امرأة عمَّا يجول في نفسها، وحدَّثت به رسول الله صلى لله عليه وسلم؛ أملاً أن تجد حلاً لمشكلتها، فنزل الحكم والحل في قول الله تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة: 1).

وتزخر السيرة النبوية الشريفة بالكثير من المواقف التي تؤكد حرية الرأي والتعبير، للمسلمين وغيرهم، ومن ذلك ما أورده ابن هشام في «سيرته» أن عتبة بن ربيعة جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِّطة (المكانة) في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرَّقت به جماعتهم، وسفَّهت به أحلامهم، وعِبتَ به آلهتهم، وكفَّرت به مَن مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً، لعلك تقبل بعضها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قل يا أبا الوليد، أسمع. فقال له عتبة ما قال، حتى إذا فرغ، قال له: أوَقَدْ فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم. قال: فاسمع مني. قال: أفعل. فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يتلو عليه من سورة «فصلت» حتى انتهى إلى الآية موضع السجدة منها، فسجد، ثم قال لعتبة: قد سمعت يا أبا الوليد فأنت وذلك. فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بوجه غير الوجه الذي ذهب به. وطلب عتبة إليهم أن يَدَعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وشأنه، فأبوْا وقالوا له: سحرك يا أبا الوليد بلسانه.

والشاهد في هذا الحوار أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمع قول عتبة ورأيه هو وجماعته من أهل الكفر، ولم يمنعه من التعبير عن رأيه وما جاء بشأنه، فكان الرأي والرأي الآخر بشكل حضاري راقٍ.

موقف الأعراب

من مواقف الأعراب –وأسلوبهم الشديد الغلظة- مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ما حدث من الأعرابي الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له: اعدل يا محمد. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويْحك ومَنْ يعدل إن لم أعدل؟» فقام سيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يريد أن يضرب عنقه، فمنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

مما سبق يتضح لنا أن الإسلام يُقِرُّ كل صاحب حق على التعبير عن رأيه، ولكنه في الوقت نفسه يضع ضوابط لحرية الرأي والتعبير، فهي ليست حرية مطلقة، كما يفعل بعض أعداء الإسلام من الإساءة للإسلام ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الضوابط: التثبت والتأكد من صحة المعلومات التي يريد الإنسان أن يتحدث عنها وينشرها، قال الله تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء: 83)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذباً أن يُحدِّث بكل ما سمع»، كما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقل أحاديث الناس دون التأكد من صحتها، وكذلك نهى عن شهادة الزور، والسب والقذف، وغيرها من آداب حرية الرأي وضوابطها.

ضوابط متعددة

من ضوابط حرية الرأي وأحكامها في الإسلام ما قرره مَجمع الفقه الإسلامي الدولي، التابع لمنظمة التعاون الإسلامي، ومقره السعودية، حيث أكد أن المقصود بحرية التعبير عن الرأي تمتع الإنسان بكامل إرادته في الجهر بما يراه صواباً ومحققاً النفع له وللمجتمع، سواء تعلق بالشؤون الخاصة أو القضايا العامة، مشيراً إلى أن حرية التعبير عن الرأي حق مصون في الإسلام في إطار الضوابط الشرعية، موضحاً أن من أهم الضوابط الشرعية لممارسة حرية التعبير عن الرأي عدم الإساءة للغير بما يمس حياته أو عِرضه أو سمعته أو مكانته الأدبية، مثل الانتقاص والازدراء والسخرية، ونشر ذلك بأي وسيلة كانت، مع التزام الموضوعية والصدق والنزاهة والتجرد عن الهوى، إضافة إلى الالتزام بالمسؤولية والمحافظة على مصالح المجتمع وقيمه، دون خدش للحياء أو المساس بقيم المجتمع، وألا تتضمن حرية التعبير عن الرأي أي تهجم على الدين أو شعائره أو شرائعه أو مقدساته، مع التشديد على ألا تؤدي حرية التعبير عن الرأي إلى الإخلال بالنظام العام للأمة وإحداث الفرقة بين المسلمين. وأوصى المَجمع بضرورة العمل على تطبيق ما اشتملت عليه المواثيق الدولية من قيود لمنع الإساءة إلى الأديان ورموزها، مع استبعاد الازدواجية في تعامل المجتمع الدولي مع القضايا الإسلامية والقضايا الأخرى.

إن مَنْ يتعرضون للإسلام ولرسول الله صلى الله عليه وسلم بالإساءة تحت الاستخدام الخاطئ لمفهوم حرية الرأي والتعبير توعّدهم الله سبحانه وتعالى بالعذاب الأليم، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (الأحزاب: 57 و58).

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"