المهاجرون والمهَجّرون

00:23 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبدالله السويجي

كان الإنسان يهاجر من مكان إلى آخر أكثر خصوبةً، بحثاً عن الماء والكلأ، باختياره المحض، ومع تطور المجتمعات، وازدهار المدنية، التي ربما أرهقته متطلباتها، في إطار متطلبات الحياة ذاتها، إضافة إلى شروطها المعقّدة، وحُبّاً في الثراء والحياة الأفضل والأكثر سهولة وكرماً، صار الإنسان يهاجر، متنازلاً عن المكان الذي يسميه (وطن)، كل هذا يتعلق برغبة الإنسان وحبه للتغيير أو التحسين أو التطور.

ولو بحثنا عن أسباب الهجرة الطوعية، لوجدنا قصة مختلفة لكل مهاجر، قد تكون مادية، أو عاطفية، أو اقتصادية، أو نفسية، أو سياسية، وأسباب أخرى كثيرة. ويمكننا تفهّم ما سبق، إلا أن الهجرة غير الطوعية التي يتعرض إليها الإنسان، منذ دخل دائرة المدنية، وحدود الدول التي سببت الحروب، هي الهجرة التي تؤرّق ضمير الإنسانية، وهي بشكل مباشر تهجير قسري وبالقوة، ولهذا أيضاً أسبابه، ومنها فرض ديمغرافيا جديدة، أو تطهير عرقي، أو السيطرة على الجغرافيا النظيفة (بلا سكان)، وفي كل الأحوال، تكون الحروب بين الدول، والاقتتال بين الجماعات المسلحة، هي أبرز الأسباب.

أجدني أحاول الابتعاد عن تصوير المشهد المرعب الذي تتعرض له الإنسانية منذ أكثر من مئة عام وحتى اليوم، حيث شهدت هذه السنوات حروباً عالمية، وحروباً أهلية، أدت إلى سقوط عشرات الملايين من المسلحين والمدنيين، ولم تتعلم البشرية من أخطائها، ولم تتوقف النزاعات، وربما ازدادت بشاعة، فقد ارتفع عدد الأفراد النازحين بسبب الصراعات والعنف والكوارث وأسباب أخرى إلى أعلى المستويات التي شهدها العصر الحديث، حيث وصل العدد إلى 117 مليون نازح ونازحة، مما يؤكد الحاجة الملحة لمعالجة أزمات النزوح.

ويقول تقرير حديث للمنظمة الدولية للهجرة، إن ما لا يقل عن 8565 شخصاً لقوا حتفهم على طرق الهجرة حول العالم في عام 2023، ما يجعله العام الأكثر دموية خلال عقد، وأكدت المنظمة الدولية للهجرة أن طرق الهجرة الآمنة والقانونية لا تزال قليلة، ما يدفع مئات الألوف من الأشخاص كل عام إلى خوض هذه التجربة في ظروف خطِرة، حيث لا يزال عبور البحر الأبيض المتوسط الطريق الأكثر دموية للمهاجرين، إذ تم تسجيل ما لا يقل عن 3129 حالة وفاة واختفاء في العام 2022.

ولا بد من ذكر حقيقة مؤلمة، وهي أن الهجرة الطوعية أو غير الطوعية لها مذاق دموي، ورائحة الموت، فهناك من يختار الهجرة بنفسه ومن دون ضغوطات، ويختار مراكب الموت، وقد دفع كثيرون حياتهم وحياة أقربائهم، من دون أن يصلوا إلى بر الأمان، ومنهم وصل بأضرار قليلة، وبات يعاني مسائل ترتبط باللغة والهوية والعادات والتقاليد والحضارة.

فوائد تنموية للهجرة، في أنحاء العالم، وبعيداً عما تسبّب به (الربيع العربي) الذي أُشبع دراسة، يرى كثيرون أن السبب الرئيسي للهجرة يكمن في البطالة، حيث وصلت نسبة العاطلين عن العمل إلى 25% وفق منظمة العمل الدولية. وكشف استطلاع نشره موقع سي إن إن بالعربية بتاريخ 11 أغسطس 2023، وهو استطلاع الرأي السنوي الخامس عشر للشباب العربي، الصادر عن شركة «أصداء بي سي دبليو»، أن هناك نسبة تفوق نصف الشباب العربي في دول شرق المتوسط (بنسبة 53%)، وتقارب النصف في شمال إفريقيا (بنسبة 48%)، يفكرون جدياً في مغادرة بلدانهم بحثاً عن فرص أفضل، وتحديداً فرص العمل.

نخلص، استناداً إلى ما تقدّم، إلى أننا أمام قضية إنسانية، تشكل نعمة على جهة، وهي الدول المضيفة، حيث توفّر لها العمالة المطلوبة لإدارة المصانع والأراضي الزراعية والخدمات، ومن جهة أخرى، تشكل الهجرة، في أحسن تجلياتها، نقمة على المهاجر، خاصة أنه لا يعرف ما ينتظره في بلد له ثقافة مختلفة، وأسلوب حياة مختلف، ومبادئ وعقائد وقيم مختلفة، فيتحول الاستقرار والرفاهية بعد ذلك، إلى أرق ومشاكل اجتماعية، فتتفكك الأسر، وربما تضيع أجيال كاملة، إضافة إلى النفور الذي يحدث بين أفراد الأسرة. يحدث هذا رغم البرامج الإرشادية التي تطمح إلى تذويب المهاجرين أو المهجّرين، في بلادهم الجديدة.

أما الأمر الآخر، فيتعلق بالهوية التي هي جزء من الشخصية الوطنية، ويجد المهاجر نفسه أمام صراع حضاري، فهو غير قادر على الذوبان في المجتمع الجديد، وغير قادر على التمسك بثقافته، أي عاداته وتقاليده ومبادئه، فتحدث الصدمة الحضارية، التي تجعله يرتد ويصبح أكثر تطرّفاً في مبادئه وسلوكه، وقد يتحوّل إلى أصولي فيقرر العمل على محاربة الجهة التي استضافته، وأمّنت له الحياة الجديدة. وهذا التناول لا يستبعد وجود فئة تمكّنت من التأقلم مع الواقع الجديد، ورضيت في دفع أثمان باهظة، تتعلق بالتواطؤ مع الذات، وغض النظر عن قضايا حساسة.

الهجرة قضية قديمة جديدة، وتكتسب أهميتها الآن، لأنها تسهم في تفريغ المجتمعات من الكفاءات والخبرات والاختصاصات، أي تفريغها من الأدمغة، ولا يوجد حل لهذه المعضلة سوى استحداث برامج تستقطب العاطلين عن العمل، وهم ليسوا عمالاً فقط، والاحتفاظ بهم في أوطانهم للمساهمة في تنميتها، لكن هذا الأمر يتطلب استقراراً وأمناً، وهو مهمة الدول والحكومات.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3bk6r86n

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"