عادي

التعرّف إلى الآخرين.. الفن الضائع

22:58 مساء
قراءة 5 دقائق
التعرّف إلى الآخرين.. الفن الضائع

القاهرة: مدحت صفوت

يفتح السؤال عن الترجمة وعلاقتها ب«المركزية الأوروبية» الباب على إشكاليات الترجمة إلى العربية عموماً، التي تعاني الكثير من المشكلات والعوائق التي تحول دون القيام بأدوارها على الوجه الأكمل، وترتبط هذه المشكلات والعوائق بالسياقات السياسية، والاجتماعية، والثقافية للعالم العربي منذ قرنين من الزمان تقريباً؛ حيث بداية حركة الترجمة كنشاط اجتماعي، وتنويري، واستقلالي، وداعم للنهضة والتحديث في عهد محمد علي.

ورغم أن بداية الترجمة تمت برعاية الدولة، فإن الرعاية الحكومية للترجمة لم تُنتج في النهاية سوى رقم متدنّ، ومحدود من الإصدارات، ما يعكس غياب رؤية وخطة عربية عامة، أو محلية، تعي مقومات العصر، وتحدياته، وتمثل استجابة لها، وبجانب هذه المحدودية يقفز سؤال موقف الترجمة من اللغات والثقافات غير الأوروبية، ليزيد من شجون المعنيين بالترجمة ودورها.

  • مقاومة

الحديث عن لغات أوروبا الغربية والوسطى يستدعي بالضرورة التوقف أمام مفهوم «المركزية الأوروبية»، والذي بات يعني التسليم ب«تفوّق الأوروبيين على سائر الشعوب الأخرى غير الأوروبية»، وبالتالي لا يتحرك التاريخ إلا في أوروبا، أو بسبب قوّة دافعة من أبناء القارة العجوز، ما يعني وجود رؤية أحادية للمعرفة والتاريخ والتطور البشري؛ أوروبية بالطبع، أو تحديداً تنتمي إلى أوروبا الغربية، المعنية بإعادة تصدير تلك الرؤية، التي تستحيل مع الوقت إلى مقياس للتطور والتقدم والتحضر، والنتيجة الحتمية لذلك هي نفي المساهمات التي قدمتها الحضارات الأخرى للتراث المشترك للإنسانية، أو التعامل معها كماضٍ بائد لم يدرك الحضارة التي جاء بها الرجل الأوروبي، ما يكرس صورة نمطية لاعتبار أوروبا والأوروبيين محوراً للثقافة العالمية والتاريخ والاقتصاد وما إلى ذلك، أو النظر إلى «كل شيء» من خلال عدسة القيم والمواقف والمصالح الأوروبية.

وليس بجديد أن نقول إن العالم غدا قرية صغيرة، وأصبح الاحتياج إلى التواصل أكثر إلحاحاً من ذي قبل، وباتت عملية معرفة الآخر ضرورية قدر ضرورة معرفة الذات؛ بل ربما لا تتم العملية الأخيرة؛ أيّ «تحقق الذات» لمعرفتها من دون معرفة الآخر، والترجمة، في جوهرها، توجه نحو الآخر، أياً كان، واعتراف به وبوجوده، ويرتبط جوهر صورة الذات لدى الآخر، أو صورة الآخر لدينا، بمقدار معلومات كل طرف عن الآخر، فالعلاقة بين دقة الصورة واقترابها من الحقيقة وقدر المعلومات علاقة اطرادية، ومن ثم تصبح الترجمة إحدى سبل المثاقفة، وأهم وسائل التلاقي الحضاري.

  • كلاسيكيات روسية

ومع بداية الترجمة في القرن التاسع عشر، بإنشاء مدرسة الألسن في مصر ووضع الشيخ رفاعة الطهطاوي على رأسها، بدأت العربية في التلاقي مع الكتب الأجنبية، خاصة الفرنسية، كما عرف العرب وقتها طريقهم إلى لغات من خارج «المركز الأوروبي»، متجهين إلى شرق أوروبا، خاصة مع جهود الشيخ محمد عياد الطنطاوي في الترجمة من الروسية، قبل أن تتحول إلى حركة أو تيار عام في الثقافة العربية مطلع القرن العشرين، وتعرف حركة الترجمة أسماء عدّة منها: سليم قبعين وخليل بيدس، اللذين ترجما مؤلفات كبار الكتاب الروس، أمثال ليو تولستوي، وماكسيم جوركي، وبوشكين، وجوجول، وتشيكوف.

ومع منتصف القرن الفائت كانت الروابط الثقافية العربية الروسية في أوْج قوتها، وانصب ذلك على حركة الترجمة، خاصة في مصر؛ إذ نقل المترجمون «روائع» الأدب الروسي، سواء من اللغة الروسية أو اللغات الوسيطة، ولم يكتف المترجمون وقتها ب«السرد» أو الشعر، وإنما عملوا على نقل التجارب المسرحية، وعمل الأديب السوري سامي الدروبي على ترجمة الأدب الروسي من خلال اللغة الفرنسية.

  • ضالة القارئ

مع نشاط ترجمة أدب أمريكا اللاتينية تعرّف القارئ العربي، بشقيه العادي والمتخصص، إلى هذا النتاج في تحولاته الكبرى، وفي مآلاته اللاحقة، الأمر الذي بدأ مع ستينات القرن العشرين، بعد أن غزا الأدب الإسباني -على نحو لا مثيل له- أغلب ثقافات العالم، خاصة بعدما حصلت الشاعرة التشيلية جابرييلا مسترال على جائزة نوبل في الآداب 1945، ومن بعدها ميجال أنجيل استورياس من جواتيمالا 1967، ثم التشيلي بابلو نيرودا 1971، وتعرّف العالم إلى أسماء؛ مثل غابرييل غارسيا ماركيز من كولومبيا، وأليخو كاربنتيير وليوناردو بادورا من كوبا، وخوان رولفو وأكتافيو باث وكارلوس فوينتيس من المكسيك، وخورخي لويس بورخيس، وخوليو كورتاثار وبيّو كاساريس من الأرجنتين، وماريو بارغاس يوسا من بيرو، وفي مرحلة تالية برزت أسماء أخرى؛ أهمها: روبرتو بولانيو.

وأصبح أدب أمريكا اللاتينية أكثر قراءة في العالم العربي، مع حصول ماركيز 1982 وأكتافيو باث 1990 ثم يوسا 2010 على نوبل، ووجد القارئ العادي ضالته في تصور الأدب حكاية مشوقة، تجلب متعة القراءة، فيما بحث القارئ المتخصص -إن جاز التعبير- عن التقاليد العريقة، الضاربة جذورها عميقاً في أرض أمريكا اللاتينية وشخصيتها الفردانية، راصداً ما مثله من نقلة نوعية، خاصّة في عالم الخلق والإبداع الأدبي في فضاء اللغة الإسبانية.

  • قريبٌ بَعيد

رغم اقترابها مكانياً من العالم العربي فتظل القارة الإفريقية بعيدة على مستوى الوعي بها ومعرفة جمالياتها وعوالمها المختلفة، حتى باتت عبارة «لا نعرف جيراننا» جملة رائجة، ودالة على العلاقات الثقافية العربية الإفريقية، وكاشفة عن ندرة في الترجمة، ليظل الأدب الإفريقي بعيداً عن الوعي العام العربي، وبعيداً عن المقارنات النقدية الجادة التي تستبصر جمالياته وأساليبه وغاياته، ومع أهميته القصوى لا يلقى اهتماماً كافياً من المؤسسات الثقافية المهتمة بالترجمة.

ومنذ بزوغ الأدب الإفريقي الحديث منتصف القرن العشرين، ظهرت حركة لترجمته، وإن كانت غير مؤسسية ولا منتظمة، ففي الستينات ترجمت بعض النصوص السردية والشعرية، ثم أصدرت المنظمة الأفروآسيوية مجلة لوتس في 1968؛ لتصبح «نافذة للأدب والنقد الإفريقي»، قبل أن يتوقف صدورها، وغالباً لا يلتفت الباحثون العرب إلى آداب القارة السمراء إلا بعد أن يفوز إفريقي بجائزة كبرى، مثل فوز الأديب النيجيري وول سوينكا بجائزة نوبل في عام 1986.

وعلى الرغم من أن الرواية الإفريقية المكتوبة بالإنجليزية هي الأوسع انتشاراً في القارة؛ إذ كتب بها سوينكا، وغابرييل أوكارا، وآموس توتولا، وتشينو أتشيبي، ووليم كونتون، وكوفي أوكونور، وغيرهم، فإن ترجمتها إلى العربية تكاد تنعدم، وجدير بالذكر هنا أن نشير إلى جهود المترجم المصري سمير عبد ربه، الذي نقل إلى العربية روائع الأدب الإفريقي، مثل رواية «سنوات الطفولة» لسوينكا، والمجموعة القصصية «الياقوتة»، ورواية «العالَم البُرْجوازي الزائل»، وكِلتاهما لكاتبةِ جنوب إفريقيا نادين غورديمر، الحاصلة على نوبل أيضاً، ورواية «الموت في الشمس» للكاتب التنزاني بيتر بالانغيو، ورواية «طريق الجوع» للكاتب النيجيري بن أوكري الحاصل على جائزة بوكر البريطانية، ورواية «سَهْم الله» لأتشيبي، كما ترجَم قصصاً متفرّقة لمجموعة من مُبدعي إفريقيا، جمَعها في كتابه «من روائع الأدب الإفريقي».

وإضافة إلى مجهود عبد ربه، تأتي جهود الفلسطيني عزت نصار الذي ترجم في 2002 رواية للنيجري شنوا أتشيبي «الأشياء تتداعى»، وترجم السوري عبد الكريم محفوظ رواية «حبة قمح» للكيني نغوجي واثينغو، ونقل العراقي عبد الله الصخي «النهر الفاضل» للمؤلف نفسه، فيما ترجم نزار مروة لأوكارا «الصوت»، وأخيراً المترجم التونسي جمال الجلاصي الذي ترجم «إضراب الشحاذين» للسنغالية أميناتا ساو فال.

  • الاتجاه شرقاً

منذ فوز الروائي الصيني مويان بجائزة نوبل 2012 وصدور روايته «الذرة الرفيعة الحمراء» عن المركز القومي للترجمة، وثمة حركة اهتمام واضحة بالأدب الصيني ونقله إلى اللغة العربية، خاصة في ظل الجهود المتراكمة التي تبذلها مؤسسة بيت الحكمة في نقل الثقافة الصينية إلى العالم العربي، ومشروعها الذي يحمل شعار «نصل الشرق بالشرق»، ولا تكتفي الدار بترجمة الروايات أو النصوص الأدبية، وإنما تعمل على نقل المعارف والعلوم الصينية إلى اللغة العربية.

ولعل أستاذ اللغة الصينية والمترجم محسن فرجاني، هو صاحب الباع الأطول في نقل الآداب الصينية، قديمها وحديثها، وأبرزها «محاورات كونفشيوس» و«الأخلاق» للفيلسوف الصيني «لاو تسو»، و«فن الحرب عند سونبين»، و«الوحش المحبوس: قصص قصيرة من الأدب الصيني المعاصر».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4422tk83

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"