عادي

تبديد المعنى

22:55 مساء
قراءة 5 دقائق

القاهرة: وهيب الخطيب

ربما يمكننا القول بشيء من الاطمئنان، إن ترجمة الشعر هي الموضوع الأكثر إثارة للجدل، سواء من المتخصصين أو أولئك القراء العابرين، وهو جدل قديم قدم الشعر نفسه، أو على الأقل منذ بداية التبادل الثقافي، ولم يتوقف الحديث يوماً، وما أكثر المناسبات المحرضة على الإدلاء بالرأي وإثارة النقاشات.

وتتنوع النقاشات بين جادة تقدر الفنون والآداب، وترى في الترجمة نشاطاً إنسانياً مهماً، وفي القلب منه ترجمة الشعر، وهناك من ذهب إلى أن الترجمة إبداع جديد، وبين جدل ممل وعديم الفائدة تتعلق بقابلية ترجمة الشعر وعدم إمكانية ترجمته، ما يعني أن الأمر لا يستحق قضاء الوقت، لكن عموماً اتفق الجميع على أن مهمة الترجمة محفوفة بمخاطر جمة، أبرزها تبديد المعنى.

وبالنسبة إلى الشعر، فإن معضلة الترجمة هي إما إنشاء نص يمكّن القارئ من الوصول إلى الأصل ومبتغاه، أو إنشاء نص شعري جميل مستوحى من النص الأصلي، ومع أي صعوبات أو تحديات أو مخاطر، سواء متعلقة بإشكاليات الأسلوب أو تنبع من فكرة مطاردة المعنى وأشباحه، فإننا نرى أن هناك من يترجم الشعر وآخر يقرؤه، وهذا أكثر من كافٍ.

وفي الثقافة العربية الحديثة، نظن أن الشعر المترجم واحد من نوعية الإصدارات التي يبحث عنها الكُتّاب والمثقفون والشعراء، أو القراء المهتمون بالقصيدة، ولربما نفدت طبعات بعض الكتب المترجمة فور صدورها، نذكر مثلاً الشغف الذي ساد في الأوساط الثقافية بترجمة الأعمال الكاملة للشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس، بترجمة الشاعر الراحل رفعت سلام، منذ ما يزيد على 10 سنوات.

وبخلاف كفافيس، لدينا عشرات بل مئات الشعراء المهمين في الثقافات واللغات الأخرى، كالإنجليزية والفرنسية والإسبانية والألمانية والروسية، وحتى الصينية واليابانية والهندية، باتوا مألوفين في الساحة العربية، وحاضرين بفاعلية في الشعرية العربية الحديثة، وهنا يمكن الإشارة إلى إليوت وعزرا بوند وويتمان ويانيس ريتسوس، وجون بيرس وإيلوار وبودلير ورامبو وأبولينير وألن بو ولوركا ونيرودا وطاغور ونوفاليس وشيلر وريلكه وغيرهم.

هذا الحضور لا يتمثل في القراءة فحسب، ولا ترديد بعض العبارات وأحياناً القصائد التي يحفظها القراء العرب لأولئك الشعراء، إنما يتشعب إلى مسارات عدّة، أولها حضور هؤلاء الشعراء ونتاجهم في الدرس النقدي الأكاديمي العربي، ليس في أقسام اللغات، وإنما في أقسام اللغة العربية وآدابها أيضاً، وهو مؤشر دال على المدى الذي يصل إليه قبول الشعر المترجم في الساحة الثقافية العربية.

مسار آخر يمكن أن يكشف عن حضور أكبر وفعالية أقوى، ويتمثل في تأثير الشعر المترجم في الشعرية العربية الحديثة برمتها، ولا نقصد هنا بدايات قصيدة التفعيلة في أربعينات القرن العشرين، وإنّما يمكن تتبع تأثيرات أخرى أبعد زمنياً منذ حركة نهضة الشعر العربي الحديث وجيل الرواد، أبرزهم أميرهم أحمد شوقي، ومن بعده جماعتا أبوللو والديوان.

ومع منتصف القرن العشرين، يفرض الشاعر الإنجليزي ت. س. إليوت سطوته على كثيرين من الشعراء العرب، خاصة من خلال قصيدته «الأرض الخراب» ومسرحيته «جريمة قتل في الكاتدرائية»، ولعل وأبرز الشعراء المقترن اسمهم بإليوت هو صلاح عبدالصبور. كما أن الإسباني لوركا لا يقل حضوراً عن إليوت، خاصة في فترات التحرر والاستقلال الوطني، وانتهاء حِقَب الاستعمار الغربي الطويلة في المنطقة.

وسريعاً امتد تأثير الشعر المترجم للدرجة التي يقترن عدد من أسماء الشعراء العرب بأسماء شعراء من ثقافات أخرى، خاصة في المنتديات الأدبية، فأدونيس مثلاً لدى بعضهم متأثر بجون بيرس، وبدر شاكر السياب بالشاعرة الإنجليزية إديث سيتول، واسما يوسف الخال وأنسي الحاج يرتبطان أحياناً باسمي عزرا بوند وأنتونان آرتو.

موقف قديم

والسؤال هنا، لماذا تثار مسألة ترجمة الشعر من وقت ﻵخر؟ تاريخياً، تبدو مسألة نبذ ترجمة الشعر متجذرة، فمع النهضة العربية في العصر العباسي وبدايات الانفتاح الثقافي على ثقافات الشعوب الأخرى، ومع حركة الترجمة الواسعة في الفلسفة والمنطق، لم يعرف العرب ترجمات تذكر في مجال الشعر، فيما يمكن أن نتلمس ما يشير إلى أن هوميروس الشاعر اليوناني كان معروفاً في بيئات خاصة من بيئات العلماء في بغداد، وكان شعره ينشد بأصله اليوناني أحياناً، من قبل المترجمين حملة الكتب المقربين من الخلفاء.

ولا يفوت هنا أن نتذكر عبارة الجاحظ الشهيرة التي وردت في كتابه «الحيوان»: «إن الشعر لا يمكن أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حوّل تقطع نظمه، وبطل وزنه، وذهب حسنه، وسقط موضع التعجب فيه». وبالطبع قلة حركة ترجمة الشعر قديماً ليست بسبب مقولة الجاحظ، فالعوامل كثيرة متشابكة، ناهيك عن أن رؤية الجاحظ ذاتها قريبة من رؤية الشاعر الغنائي والناقد الروماني القديم هوارس الذي ذكر مصطلح «النقل الحرفي»، وذهب إلى إنكار جدواه في الشعر.

مقولة الجاحظ ليست ببعيدة عن مواقف لا تزال قائمة في العصر الحديث، خاصة الشاعر الأمريكي روبرت فروست الذي سبق أن قال: «الشعر هو ما يضيع في الترجمة»، وهو الموقف الذي انسحب على رؤى مدارس نقدية حديثة مثل اللسانيات والإنشائية، إذ يرى ياكبسون أن الشعر لا يمكن أن يترجم أو أن ينقل نقلاً خلاقاً.

وقالت مدارس اللسانيات باستحالة ترجمة الشعر، لأنها تنطلق من مبدأ الفصل بين الدال والمدلول، فترجمة الدال لا تتضمن ترجمة المدلول، ولأن النص المترجم سيخلق علاقة جديدة في اللغة المنقول إليها بين دال ومدلولين جديدين. وأزمة ترجمة الشعر هنا تبدأ من اللغة، فالحقول الدلالية لا تتطابق فحسب، حد رؤية بول ريكور، ف«التراكيب أيضاً ليست متعادلة، وأساليب الجمل لا تحمل الموروثات الثقافية نفسها، من خلال هذا التنافر المركب يستمد النص الأجنبي مقاومته للترجمة، وبهذا المعنى يعلن عدم قابليته المتناثرة للترجمة».

ويضاف إلى كل ما سبق طبيعة القصيدة نفسها، فالشعرية على قدر جماليتها «صعبة وطويل سلمها»، وهي ليست ذات بنية واحدة، إذ هناك قصائد سهلة في متناول الترجمة القاموسية، وثانية صعبة ومعقدة ومعناها متجذر في ثقافة اللغة وتراثها الحضاري، وثالثة موزونة وموسيقاها جزء لا يتجزأ من بنيتها، ورابعة حرة لا تضع قيوداً على ترجمتها، وأخرى مستعصية على النقل والتعبير عنها من ناحية الشكل والمضمون.

يريد كل شاعر ترجمة جيدة لنصوصه، ومع ذلك، قليلون فقط يعرفون ما هي أهم صفات الترجمة الجيدة، المبنية أولاً على مترجم جيد يجيد اللغتين اللتين ينقل منهما وإليهما، ففي الوقت الذي تظل فيه الترجمة الجيدة مفهوماً غير محدد، فإن ثمة شيئاً واحداً مؤكداً: «الترجمة الجيدة تتطلب مترجماً جيداً».

وهو المترجم الذي يعي أن في الترجمة كل شيء يتغير. كل كلمة أو عبارة؛ كل مقطع سيكون مختلفاً عن النص الأصلي، فالترجمة كما أنها إبداعية في جوهرها، فإنها عمل تفسيري، يقرأ المترجمون القصيدة الأصلية ويحاولون فهم تأثيرها وأسلوبها وألاعيبها البلاغية، أي اختيار عناصر النص التي يجب الحفاظ عليها، ما يعني أن عناصر أخرى «ستهدر» و«ستفقد»، وهو ما يشار إليه ب«الطاقة المهدرة في الترجمة» أو بتعبير آخر «الخسارة».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdf5fvet

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"