أزمة ديون الدول النامية

22:09 مساء
قراءة 4 دقائق

د. محمد الصياد *

في الثالث عشر من ديسمبر 2023، أصدر البنك الدولي بياناً صحفياً ملخِّصاً لآخر تقاريره عن الديون العالمية، بدا وكأنه جرس إنذار بضوء أصفر، حتى لو لم يُرد مسؤولو البنك إقلاق الأسواق به. الأمر يتعلق بتفاقم أزمة مديونية الدول النامية نتيجة لأكبر ارتفاع في أسعار الفائدة العالمية منذ أربعة عقود، وهو ما أجبر الدول النامية في عام 2022 على دفع مبلغ قياسي قدره 443.5 مليار دولار سداداً لديونها الخارجية العامة والديون المضمونة من الحكومة، ما أدى إلى تحويل إيراداتها المالية (الشحيحة أصلاً) بعيداً عن الاحتياجات التنموية الحيوية مثل الصحة والتعليم والإعمار، دفعاً لخدمة ديونها (الأقساط + الفوائد).

هذه كلها نتيجة حتمية لحاكمية ما يسمى «إجماع واشنطن» (Washington Consensus)، وهو ائتلاف أنشئ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، ويضم صندوق النقد والبنك الدوليين ووزارة الخزانة الأمريكية، الذين صمموا وصفات سياسية/اقتصادية، هي بمثابة كتاب قواعد معيارية مخصصة للدول النامية لدفعها لتحرير تجارتها الخارجية وتحرير قطاعيها المصرفي والمالي وخصخصة منشآتها ومرافقها الحيوية بهدف تمكين الدائنين الغربيين لهذه الدول من تحصيل قروضهم وفوائدها. بما يعنيه كل ذلك من فتح أسواقها أمام المستثمرين الأجانب وبرامج التقشف المالي المتشددة (أسعار فائدة مرتفعة وخفض قدرة هذه الدول على توفير الائتمان)، من أجل «علاج» العجز في ميزان مدفوعاتها، وعجز موازناتها، وخفض معدلات تضخمها. ومازالت هذه المدونة السياسية/الاقتصادية تحظى بالقبول من العديد من الدول النامية، رغم فشل تطبيقاتها في تحقيق الرخاء الموعود. فقد أدى رفع أسعار الفائدة وإلغاء التعريفات الحمائية وإعانات الدعم إلى تفاقم أزمة الميزانين التجاري والمدفوعات عوضاً عن حلها، كما أفضت إلى تفاقم العجز في الموازنات العامة بدلاً من خفضه، والى ارتفاع الأسعار (التضخم). والسبب هو ارتفاع كلفة ممارسة الأعمال التجارية، في ذات الوقت الذي أدى فيه الاعتماد على التجارة الخارجية وانخفاض قيمة العملة إلى ارتفاع أسعار الواردات.

فيما أدت القوة المركزة التي يتمتع بها إجماع واشنطن الى تعظيم الهيمنة الاقتصادية الأمريكية والأوروبية على كامل سلاسل التمويل الدولية. الأمر لا يقتصر فقط على إجماع قيادات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، حيث تتمتع الولايات المتحدة دائماً بحق النقض الوحيد، ولكن أيضاً وزارة الخزانة الأمريكية والشبكة العالمية للمراكز المالية التي تمتد من نيويورك وشيكاغو إلى فرانكفورت وزيوريخ. بما يعني ذلك امتلاك القدرة على إملاء شروط الإقراض. فعلى مدى سنوات عديدة، كانت قرارات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تهدف إلى جعل القروض المقدمة للبلدان الفقيرة والمتوسطة الدخل مشروطة بانفتاحها على الاستثمار الخاص، والتجارة الحرة، وإلغاء القيود التنظيمية على المؤسسات والمرافق التي تديرها الدولة مثل الطرق، وسكك الحديد، والبنوك، والصناعات الرئيسية. وتتم ترجمة هذا الانفتاح الى فرص متاحة لرأس المال الغربي لحيازة الأصول المفتاحية لاقتصادات العالم النامي، وهو ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى تفريغ الشركات المحلية الخاصة والمملوكة للدولة، إن لم يكن القضاء عليها. ولسوف يتعين على المقترضين أيضاً التعامل مع أسعار فائدة مرتفعة. ولضمان السداد، يدعو البنك الدولي وصندوق النقد الدولي إلى التقشف الذي يجب أن يشمل قيام حكومات الدول النامية بخفض برامج الرعاية الاجتماعية لسداد الديون. فلا خيار أمام هذه الحكومات لإرضاء المقرضين، سوى الامتثال لطلباتهم بإلغاء أو خفض إعانات الدعم لسلع الاستهلاك الشعبي الأساسية، والرعاية الصحية، والوقود، المقدمة لشرائح المداخيل المنخفضة.

نتيجة ذلك، كما وصفها في 22 يونيو/حزيران 2023، أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، في خطابه أمام قمة باريس من أجل ميثاق تمويل عالمي جديد، «إنه حتى الأهداف الأساسية المتعلقة بالجوع والفقر تراجعت بعد عقود من التقدم. فبعد ما يقرب من ثمانين عاماً، أصبحت البنية المالية العالمية عتيقة، ومختلة، وغير عادلة. فالنظام النقدي والمالي العالمي لم يعد قادراً على تلبية احتياجات عالم القرن الحادي والعشرين، وهو عالم متعدد الأقطاب يتسم بالتكامل العميق بين الاقتصادات والأسواق المالية، ولكنه يتسم أيضاً بالتوترات الجيوسياسية والمخاطر الشاملة المتنامية. فالمؤسسات المالية الدولية أصبحت الآن أصغر حجماً ومحدودة، ما يجعلها غير قادرة على الوفاء بتفويضها وخدمة الجميع، وخاصة البلدان الأكثر ضعفاً. على سبيل المثال، أصبح رأس المال المدفوع للبنك الدولي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي الآن أقل من خمس ما كان عليه في عام 1960، على الرغم من أن التحديات صارت أكبر كثيراً. والأسوأ من ذلك أن النظام المالي العالمي يعمل على إدامة عدم المساواة، بل ويزيد من تفاقمها. في عام 2021، على سبيل المثال، خصص صندوق النقد الدولي أكثر من 650 مليار دولار من حقوق السحب الخاصة لمساعدة الدول الأعضاء. تلقت دول الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك بلدي (البرتغال)، 160 مليار دولار، فيما تلقت الدول الإفريقية 34 مليار دولار فقط. بعبارة أخرى، حصل المواطنون الأوروبيون في المتوسط على ما يقرب من 13 مرة أكثر من المواطنين الأفارقة». يختم غوتيريش بالقول: «لقد تم كل هذا وفقاً للقواعد. ولكن دعونا نعترف بأن البنية المالية التي لا تمثل عالم اليوم معرضة لخطر تفتتها في عالم تشكل الجغرافيا السياسية فيه - بحد ذاتها - عاملاً من عوامل التفتت».

*خبير بحريني في العلاقات الاقتصادية الدولية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3kanke5f

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"