عادي
ثلاثة سيناريوهات لحل قضية اسم الجمهورية بين أثينا وسكوبيه

«مقدونيا».. صراع التاريخ والحاضر والمستقبل

00:32 صباحا
قراءة 7 دقائق
1
غوردانا سيليانوفسكا دافكوفا

د. أيمن سمير

لم يتخيل الإسكندر الأكبر أن يكون سبباً للخلاف والتنافس بين دول وحكومات بعد مئات السنين من رحيله، أحفاده في منطقة وسط البلقان لا يتوقفون عن استدعاء التاريخ، ولا يستطيعون أن تمر حقبة من دون أن يتم اجترار أحداث وشخصيات تاريخية مقدونية، ترى فيها الأحزاب المحافظة «عصب قوتها»، و«منبع وجودها» في الحاضر، والحاضنة التي يمكن أن تتكئ عليها للمرور نحو المستقبل

هذا الواقع شديد التعقيد جسدته غوردانا سيليانوفسكا دافكوفا، الرئيسة الجديدة ل«جمهورية مقدونيا الشمالية»، عندما رفضت أثناء أدائها اليمين القانونية أن تذكر «الاسم الدستوري الجديد» لبلادها، وهو «جمهورية مقدونيا الشمالية»، واكتفت فقط بالقول «مقدونيا»، الأمر الذي أشعل موجة من الاحتجاج لدى اليونان، وبلغاريا، ودول الاتحاد الأوروبي، ورغم أن النص الأصلي للقسم يتضمن ذكر الاسم كاملاً «جمهورية مقدونيا الشمالية» إلا أن الرئيسة دافكوفا - التي فازت في الانتخابات الرئاسية بنحو 550 ألف صوت تشكل نحو 65 % من الأصوات- قالت في القسم: «أعلن أنني سأمارس منصب رئيسة مقدونيا بضمير ومسؤولية، وأنني سأحترم الدستور والقوانين وأنني سأصون سيادة مقدونيا، وسلامة أراضيها، واستقلالها»

الصورة

سبق أن تم التوصل بين أثينا وسكوبيه عاصمة مقدونيا الشمالية وأكبر مدنها إلى اتفاقية تاريخية بريسبا عام 2018، تقضي بأن يكون الاسم هو «جمهورية مقدونيا الشمالية»، بما يسمح لليونان بالاحتفاظ بالحق التاريخي للإرث المقدوني، كما منح اتفاق 18 مارس/ آذار عام 2018 حقوقاً كاملة للبلغاريين في مقدونيا الشمالية مقابل موافقة كل من اليونان وبلغاريا على دخول «مقدونيا الشمالية» إلى حلف دول شمال الأطلسي «الناتو»، والاتحاد الأوروبي، وبالفعل أصبحت «مقدونيا الشمالية» العضو رقم 30 في حلف الناتو منذ شهر مارس 2020، كما أنها مرشحة لتصبح عضواً في الاتحاد الأوروبي قبل عام 2030 مع ألبانيا، وصربيا، والجبل الأسود

ولم يتوقف الأمر عند خروج صوفيا فيليبيدو، سفيرة اليونان من القاعة اعتراضاً على «القسم الناقص» من أول امرأة تتولى منصب الرئاسة في مقدونيا الشمالية منذ استقلالها عام 1991، بل دعت الأحزاب المحافظة واليمينية في اليونان للانسحاب من «اتفاقية بريسبا التاريخية»، واستخدام حق النقض ضد انضمام «جمهورية مقدونيا الشمالية» إلى الاتحاد الأوروبي، ووقف كل الخطوات والمميزات التي تحصل عليها سكوبيه الآن، باعتبارها دولة مرشحة لعضوية الاتحاد الأووربي، وتتهم أثينا جارتها سكوبيه بالسطو على اسم يوناني، وتاريخ مملكة مقدونيا اليونانية القديمة، التي كانت موجودة قبل قرون، وبعيداً في الاتحاد الأوروبي انتقدت رئيسة المفوضية الأوربية، أورسولا فون دير لاين، عدم التزام رئيسة مقدونيا الشمالية بالنص الكامل للقسم، وطالبتها بالالتزام بالدستور والتعهدات الدولية لبلادها، وهو انتقاد كرره الاتحاد الأوروبي، مطالباً مقدونيا الشمالية بالالتزام بروح ونصوص «اتفاقية بريسبا».

هذه الأزمة طرحت سلسلة من الأسئلة حول سبب رفض الرئيسة الجديدة لمقدونيا الشمالية، تأكيد التزامها بالاسم الدستوري لبلادها.. وما هي جذور هذا الخلاف حول الاسم والتاريخ بين اليونان وبلغاريا من جانب، ومقدونيا الشمالية من جانب آخر؟ وكيف يمكن للاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو، لعب دور إيجابي لإنهاء هذه القضية التي عطلت التنمية والرخاء لفترة طويلة في وسط البلقان؟

  • صراع الأحفاد

منذ ما يزيد على قرن من الزمان وهناك خلافات وتنافس حاد بين سكان ودول شبه جزيرة البلقان وجنوب شرق أوروبا حول الدولة التي يحق لها القول إن عظماء المقدونيين، وفي مقدمتهم الإسكندر الأكبر وفيليب المقدوني، يينتمون إليها، وإن الأجيال الحالية والقادمة هم أحفاد الإسكندر الأكبر، وبدأ الصراع حول هذه القضية بين الثلاثي اليوناني البلغاري الصربي، منذ نهاية القرن التاسع عشر، ولهذا عندما نشبت حروب البلقان الأولى بين عامي 1912 و1913 تم تقسيم مقدونيا إلى ثلاث مناطق رئيسية، حيث سيطرت اليونان على الجزء الجنوبي من مقدونيا، وانضمت الأجزاء الشمالية الشرقية إلى بلغاريا، بينما حصلت صربيا ومملكة يوغسلافيا وقتها على الأجزاء الشمالية، وكان عام 1946 فارقاً في التاريخ الحديث للمقدونيين التابعين ليوغسلافيا، حيث تم اعتبار مقدونيا جمهورية ضمن جمهوريات الاتحاد اليوغسلافي الست، لكن عندما تفككت يوغسلافيا عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، وتفكك حلف وارسو في 25 ديسمبر/ كانون الأول 1991 أعلنت جمهورية مقدونيا التي كانت ضمن يوغسلافيا السابقة استقلالها عام 1991، لكن اليونان اعترضت على استخدام الجمهورية الجديدة لإسم «مقدونيا»، واعترضت على ذلك في الأمم المتحدة وفي الاتحاد الأوروبي، وقالت أثينا وقتها إن «الإرث التاريخي المقدوني» يقع في الأجزاء الشمالية من اليونان، ولا يحق لجارتها الشمالية التي كانت تابعة ليوغسلافيا السابقة أن تحصل على اسم «مقدونيا»، وقامت وجهة النظر اليونانية على أنه لا يحق لدولة أغالبية سكانها من السلاف أن تأخذ أو تحتكر اسم مقدونيا، ونجحت الدبلوماسية اليونانية في منع الأمم المتحدة من القبول باسم مقدونيا، ولهذا وافقت اليونان عام 1993 على الاعتراف فقط من جانب الأمم المتحدة باسم «جمهورية مقدونيا اليوغسلافية السابقة»، وقدمت أثينا ما تراه أنه مرونة كبيرة عندما وافقت عام 1995 على السماح لجارتها الشمالية بأن تنضم لحلف «الناتو» والاتحاد الأوروبي، لكن تحت اسم «جمهورية مقدونيا اليوغسلافية السابقة»، وبسبب وجود حكومة يونانية محافظة في الحكم عام 2008 اعترضت أثينا من جديد على انضمام سكوبيه للاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو، ما دفع سكوبيه للتوجه إلى محكمة العدل الدولية التي حكمت لمصلحة سكوبيه عام 2011، وقالت المحكمة إن أثينا انتهكت بنود اتفاقية عام 1995 التي تسمح «لجمهورية مقدونيا اليوغسلافية السابقة» بالانضمام للمؤسسات الأوروبية والدولية، ومنها حلف الناتو، والاتحاد الأوروبي.

  • تحالف المعتدلين

كان عام 2018 بداية الانفراجة الحقيقة بين اليونان ومقدونيا الشمالية للتوصل إلى اتفاق تاريخي حول الاسم عندما صعد في مقدونيا الشمالية واليونان معاً، أحزاب من يسار الوسط، حيث وصل للحكم في سكوبيه الحزب الاشتراكي برئاسة رئيس الوزراء زوران زائيف، وفي الوقت نفسه، فاز اليسار اليوناني بالحكم تحت قيادة رئيس الوزراء السابق ألكسيس تسيبراس، وبدأ زائيف بتجهيز البيئة السياسية الداخلية لقبول اتفاق وسط مع اليونان، من خلال وقف السياسة التي كانت ينتهجها سلفه المحافظ «الحزب الديمقراطي للوحدة الوطنية المقدونية»، والتي كانت تقوم على تسمية الشوارع والميادين والمؤسسات الجديدة بأسماء الأبطال والفلاسفة المقدونيين القدامى، وهي سياسة أسهمت في توتر الأجواء بين سكوبيه وأثينا قبل عام 2018،

رئيس الوزراء اليوناني السابق الذي وقع اتفاقية بريسبا عام 2018

وكانت البداية الحقيقة في اللقاء التاريخي الذي جمع رئيس الوزراء اليوناني الأسبق ألكسيس تسيبراس، ونظيره من مقدونيا الشمالية زوران زائيف، في 12 يونيو/ حزيران 2018 في قرية «بريسبا» التي تقع على الحدود اليونانية الألبانية مع مقدونيا الشمالية، ووقع الطرفان «اتفاقية بريسبا» التي تتضمن 20 بنداً، ودخلت حيز التنفيذ في 12 فبراير/ شباط 2019، وتنص بوضوح، على الاسم الدستوري للطرف الثاني من الاتفاقية، وهو «جمهورية مقدونيا الشمالية»، أو اختصاراً ب«مقدونيا الشمالية»، وهذا يعني أن مقاطعة مقدونيا اليونانية التي تقع في شمال اليونان سوف تحتفظ بميراثها التاريخي عن الإسكندر الأكبر، وفليب المقدوني، بخاصة أن بنوداً كثيرة في هذه الاتفاقية شددت على أن اللغة الرسمية والصفات الأخرى التي سوف تستخدم في «جمهورية شمال مقدونيا» لا علاقة لها بتاريخ وثقافة وتراث الحضارة الهيلينية القديمة للمنطقة الشمالية لليونان، وحصلت «مقدونيا الشمالية» مقابل ذلك على عدم اعتراض اليونان على عضوية مقدونيا الشمالية للاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو، ونتيجة للأغلبية البرلمانية التي كان يتمتع بها حزبا تسيبراس وزائيف، صدق برلمان جمهوريا مقدونيا الشمالية على «اتفاقية بريسبا» في 11 يناير/ كانون الثاني 2019 بأغلبية 81 صوتاً، مقابل معارضة 39 في البرلمان الذي يتكون من 120 مقعداً، بينما وافق البرلمان اليوناني على الاتفاقية في 25 يناير، عام 2019 لتصبح الاتفاقية نافذة المفعول، وفي 12 فبراير 2019 تم الإعلان رسمياً، عن تغيير اسم «جمهورية مقدونيا اليوغسلافية السابقة» إلى «جمهورية شمال مقدونيا»، أو «مقدونيا الشمالية».

  • نهاية الخلافات مع بلغاريا

قبل تولى سيليانوفسكا دافكوفا الرئيسة الجديدة لمقدونيا الشمالية، بنحو عامين، وفي يونيو 2022 نجحت الحكومة الاشتراكية السابقة، بزعامة الرئيس المنتهية ولايته ستيفو بنداروفسكي، في التوصل لاتفاق مع بلغاريا لتسوية الخلافات التاريخية بين البلدين، بعد تعهد «مقدونيا الشمالية» بتعديل دستورها ليضم البلغاريين في مقدونيا الشمالية إلى المجموعات الإثنية المعترف بها، تنفيذاً لاتفاقية الصداقة التي وقعتها صوفيا وسكوبيه عام 2017 بهدف القضاء على خطاب الكراهية ضد الأقلية البلغارية في البلاد، ما فتح الباب لمصالحة وتقارب جديد بين الدولتين الجارتين، واللتين تتمتعان بعضوية حلف الناتو.

رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكس
  • مقاربة انتخابية

موقف سيليانوفسكا دافكوفا الرئيسة الجديدة لمقدونيا الشمالية بعدم نطق اسم بلادها الوارد كاملاً كما هو مكتوب في الدستور، ومسجل في الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ليس جديداً على حزبها وقاعدتها الانتخابية، فهي تنتمي للحزب الديمقراطي للوحدة الوطنية المقدونية، وهو ضمن تحالف اليمين الذي فاز في انتخابات 8 مايو/ أيار الجاري، ويضم مجموعة من أحزاب اليمين، ويمين الوسط، وسبق لهذه الأحزاب الاعتراض بشدة على «اتفاقية بريسبا» عام 2018 والتي أنهت الخلاف اليوناني المقدوني الشمالي حول الاسم.. ووصف الحزب الديمقراطي للوحدة الوطنية المقدونية «اتفاقية بريسبا» بأنها «كارثة قومية» على البلاد، كما أن الخطاب السياسي والإعلامي للرئيسة سيليانوفسكا دافكوفا، أثناء الحملة الانتخابية كان ضد هذه الاتفاقية، وعندما تلقت يوم عيد ميلادها الواحد والسبعين في الثامن من مايو/ ايار الجاري، نبأ فوزها في الجولة الثانية من الانتخابات، اعتبرت أن تصويت أكثر من نصف مليون ناخب يعد بمثابة دعم لخطابها المتشدد ضد «التسمية الدستورية الجديدة» لبلادها، وهو ما ينذر بحالة من «النكوص السياسي» في العلاقات المقدونية الشمالية مع اليونان، ويعرقل الخطوات الكثيرة التي اتخذها البلدان لفتح صفحة جديدة تقود إلى رفع معدلات النمو، وتحسين اقتصاد مقدونيا الشمالية الذي يعد من أفقر الاقتصادات في شبه جزيرة البلقان، وجنوب شرق أوربا

على الجانب الآخر، كان لموقف رئيسة مقدونيا الجديد رد فعل قوي للغاية داخل اليونان، بخاصة في الأحزاب القومية التي اعتبرت عام 2018 أن «اتفاقية بريسبا» تنازلت كثيراً لمقدونيا الشمالية، ووصفتها وقتها بأنها كارثة على اليونان، ووصل الأمر آنذاك الى اتهام القادة اليونانيون الذين وقعوا على «اتفاقية بريسبا» بالخيانة، ولاحتواء هذا الأمر سارعت الخارجية اليونانية إلى رفض موقف الرئيسة المقدونية الشمالية، واعتبار هذا الموقف انتهاكاً للاتفاق بين البلدين، ويعرّض العلاقات الثنائية وآفاق انضمام مقدونيا الشمالية إلى الاتحاد الأوروبي للخطر

رئيسة مقدونيا الشمالية أثناء أدائها اليمين القانونية
  • 3 سيناريوهات لمستقبل الأزمة

في ظل ما أقدمت عليه الرئيسة سيليانوفسكا دافكوفا، ورد الفعل اليوناني والأوروبي، هناك ثلاثة سيناريوهات لمستقبل تلك الأزمة، الأول هو «الاحتواء السريع» من جانب الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، بخاصة أن الاتحاد الأوربي لا يريد خلافات جديدة في أوروبا، ويعمل على أن يكون هناك صوت أوروبي واحد، والسيناريو الثاني هو انسحاب اليونان من اتفاقية «بريسبا»، تحت ضغط القوميين، بخاصة لو اندلعت تظاهرات على جانبي الحدود، لدعم موقف الرئيسة سيليانوفسكا دافكوفا في مقدونيا الشمالية، وتظاهرات تطالب بالانسحاب من اتفاقية عام 2018 في اليونان، وهذا الأمر لو طال قد يعرقل انضمام مقدونيا الشمالية إلى الاتحاد الأوروبي، ومنطقة اليورو، والسيناريو الثالث هو ذهاب الطرفين لمفاوضات طويلة تحت رعاية الأمم المتحدة، وفرنسا، وهما الطرفان اللذان لعبا دوراً كبيراً في التوصل للاتفاقية التاريخية بين أثينا وسكوبيه، حول اسم «مقدونيا الشمالية»، أو «جمهورية شمال مقدونيا»

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/44avjaxz

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"